هرم الآفات الإجتماعية كان يتجسّد سابقا في الفقر والجهل والمرض. هكذا كانت دروس التربية الوطنية في مدارس الستينات من القرن الماضي تكرّرها بإستمرار. الهرم صار رباعيا هذا اليوم بفعل الفساد. تحيا الأهرام وتحيا قواعدها المتينة وتحيا القمم التي بلا قواعد. تحيا الشعارات وتحيا التنمية والخطط الخمسية وتحيا اللجان المخّتصة وليسقط الإنسان. الزمن العراقي بالمقلوب. لماذا؟. السياسة غير القابلة للقياس هي مجرّد تمرين للهواة في نادي المحترفين الإقليميين والدوليين. هي تحبو وتتلكأ وتصرخ وتخطو خطواتها المتعثرة لا كطفلة يتيمة لم تعد تعرف إتجاهات الدروب وبوصلات الرحمة إثر بقائها صدفة على قيد الحياة، وإنّما كمتمرسين في ميدان التبعية والإستتباع لسيّد إثر سيّد. الخلاف فقط في هويّة السادة. أمريكا أم روسيا أم إيران أم الشيطان الأكبر أم الأصغر أم ذلك المتوسط الحجم. لا يهمّ. ففي النهاية سوف تتصالح المصالح. وسوف يخرج الأكثر قدرة على البقاء في الساحة بحصته الموعودة من لحم الضحية. قواعد الهرم تتّسع مع الزمن. ومع البعد الرابع للأشياء. البيرت آينيشتاين لم يكن يتصوّر بأنّ نظريات العلم هي مشابهة نوعا ما لأسس التخلّف في الميدان الإجتماعي. البناء والتدمير يحتاجان معا لعقول تُخطط لهما. ولو قدّر له معرفة ساستنا الأفاضل لأضاف معادلات رياضية جديدة يستلهمها من الزمن العراقي. وربّما كان سيكون عليه مراجعة ملفّات المخابرات الإقليمية لمعرفة من قادونا ومن حرّرونا ومن أنقذونا من جحيم الديكتاتورية. ولكنّه مثلنا كان يجهل بأنّ طوق النجاة من الغرق كان يُلقى من قبل القراصنة. ويجهل أنّ الضحيّة التي ستخرج من قماشة الجلاد ما هي إلّا ضحيّة مزيّفة. الظلم والمعاناة لا ينسجان أثوابا لقتلة جدد. الحياكة في ضوء فوانيس الصبر لم تكن يوما لهم. الفساد والمحاصصة لا تفسران كلّ شيء. قد نكون بحاجة لحياة أخرى نعيشها بشكل مختلف كي نعثر على التفسير. وقد تكون في الرسالة الأخيرة لغارسيا ماركيز شيء من الجواب :" سأنامُ أقلّ وأحلمُ أكثر، لو أنّ الله يعتبرني مجرّد دمية مهملة، ويمنحني قطعة حياة إضافية ". هل سنكون كما كنّا لو عشنا ثانية؟. لا شيء يقهر الموت سوى الحياة نفسها. الشعراء يذبلون كأزهار البريّة التي لا تحميها الأشواك. الثوّار يموتون أسرع. الشاعر والثائر يحلمان بحياة أطول وأجمل وأعدل. سيرتهما هي التاريخ الحقيقي غير المكتوب. السياسة تُكسر الأقلام وتُخصي الثورات كي تكتب التاريخ بحبر الكتبة، وتروي فصوله المزيّفة عن طريق الهاربين في معارك الحالمين الذين لو عادوا ثانية للحياة لما كان عليهم سوى إختيار نفس الدرب. نادرا ما يكون السياسي عندنا ثائرا، ولكن لا يمكن له أن يكون شاعرا. تبلّد الأحاسيس وفقدان الشعور بالمسؤولية لا ينتميان لعلم السياسة حتّى حين تكون في أسوأ حالاتها. حتّى حين تكون بلا أخلاق. أن تتسبّب في المعاناة ولا تهتمّ بالتداعيات، هي أبشع جريمة في التاريخ. وظيفة العقل هي العثور على مبرّرات الكارثة. أرأيتم كم هو العقل غدّار في حالتنا العراقية؟. الأحلام أطول من الأعمار. الذين لم يعودوا ينامون الّا فجرا، يعرفون ذلك. ويعرفون أنّ الحرّية بلا وطن هي حرّية اللصوص. الصغير الذي صار كبيرا في غفلة من الزمن لا يتوقّف عن الهراء. للمقبرة المهجورة غربانها. الخراب سياسة موجّهة بتخطيط دقيق وعنوانها: " هذه الأمة لابدّ لها أن تأخذ درسا في التخريب".
مقالات اخرى للكاتب