شخصيا كنت أترقب أن يصدر “نص” نهائي لمشروع التسوية التاريخية بشكل محاور كمنهج سياسي “ملزم” لجميع الأطراف الفاعلة في العملية السياسية، ولكن صدور هذا النص بشكل نقاط متفرقة خلت من لغة المحاور خفف من غواية الترقب التي كانت في أوجها حين انبثق هذا المشروع من رحم مؤسسة التحالف الوطني “الموحد “، فتشتتُ الأفكار والمحاور في نقاط غير متجانسة يبدو بعضها متشابها او مكرورا أو أن بعضها قد تمت صياغته بصيغ شعاراتية او إنشائية خطابية وبلغة قد تبدو لغة ممسرحة بعيدة بعض الشيء عن واقع مأزوم ومليء بالاستعصاءات والعقد والأزمات مثل واقع المشهد العراقي ومن كافة جوانبه وزواياه ومفاصله فهكذا واقع يستلزم برنامجا عمليا وستراتيجيا واقرب إلى الواقع من برنامج لفظي ينشد يوتوبيا سياسية عبر تراكيب لغوية إنشائية قد تكون ابعد عن الواقع بمسافات فضائية شاسعة.
وتشتتُ الأفكار والمحاور على شكل نقاط وتكرار مضامين البعض منها وامتزاج تلك المضامين بعضها مع بعض يُضعف من جدية متابعة تلك الصيغة وقراءتها وتحليلها فضلا عن متابعة تطبيقها على ارض الواقع إن حظيت بقبول “الشركاء” الذين تباينت مقبوليتهم حيال الوثيقة، فامتزاج الأفكار السياسية مع الأفكار الأمنية والاقتصادية وتلك التي تحمل مفاهيم فلسفية واجتماعية تخص العقد الاجتماعي وضرورات التعايش السلمي وترتيب البيت الوطني بعيدا عن الأخطاء والخطايا التي تمأسست بموجبها العملية السياسية منذ 2003 ، هذا الامتزاج لم يكن في موفقا ابدا.
فقراءة أولية للمفاهيم السياسية التي طرحتها وثيقة التسوية التاريخية التي أريد لها أن تكون “بروستروكيا” عراقية تمهد لعراق ما بعد تحرير الموصل تؤكد لنا بانها لا تعني الحديث عن شخوص بقدر ما هي مشروع بناء دولة او إعادة بنائها وفق اطر جديدة، ولا يعني ان هذا المشروع يأتي مكملا لمشاريع المصالحة التي لم تأتِ أُكُلها رغم المبالغ والجهود التي بذلت من اجل تحقيقها فهي ليست مشروعا للمصالحة كما يتوهم البعض الذي راح يَكيل التهم جزافا بأنها مشروع للتصالح مع قتلة الشعب العراقي، نجد أن العنوان العريض لها يقوم على مبدأ: لا غالب ولا مغلوب وتصفير الأزمات والاحتكام للقانون، وانطلاق هذا المشروع تحت يافطة فتح الأبواب للجميع ما عدا الذين تلطخت أيديهم بدماء العراقيين (مع تشخيصهم) أو الذين يضعون قدما هنا وقدما هناك ويتم كل ذلك تحت مظلة الأمم المتحدة ورعايتها الأممية وبالتنسيق مع الحكومة العراقية في إشارة إلى أن هذا المشروع سيكون ورقة عمل مشتركة ما بين الأمم المتحدة والحكومة العراقية التي ستأخذ على عاتقها تنفيذ المشروع.
والغريب في الأمر أن ورقة مشروع التسوية التي طرحها التحالف الوطني الموحد كان أجدر بان تطرح كمشروع لتسوية سياسية داخلية ما بين الشركاء داخل التحالف (الشيعي) نفسه وإعادة ترميم البيت الشيعي نفسه قبل الانطلاق بمشروع سياسي شامل لجميع (الشركاء في الفضاء الوطني) داخل العملية السياسية أو لغيرهم فالتحالف الوطني هو في الحقيقة أحوج ما يكون الى هكذا مشاريع للملمة الصفوف المبعثرة فيه قبل الانتقال الى الفضاء الوطني الرحب باتجاه الشركاء الآخرين المنضوين في العملية السياسية التي يحاول المشروع أن يضعها كمنطلق وقاعدة “ملزمة” لجميع الأطراف لتنفيذ بقية بنود التسوية وبالاحتكام الى الدستور: (الاعتراف الرسمي والملزم لجميع الأطراف بالعملية السياسية ومخرجاتها وما يستلزم ذلك من تبعات ومسؤوليات على شتى الصعد السياسية والقانونية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والدينية، ورفض الابتزاز السياسي مهما كان نوعه)، وهذا أول بند سيصطدم به مناوئو العملية السياسية كون الكثير من الأطراف لا تعترف بهذه العملية إطلاقا وتعتبرها من مخرجات المحتل، فضلا عن عدم اعترافها بالدستور العراقي أساسا وهو اصطدام سياسي آخر (الالتزام بالدستور كمرجعية والعمل به دونما انتقائية والاستعداد لإجراء التعديلات الدستورية على وفق الآليات التي نص عليها الدستور ذاته).
وتتوسع الوثيقة في الطرح السياسي في محاولتها إعادة منتجة العملية السياسية وفق مفاهيم عقلانية كانت غائبة عن وعي مؤسسي العملية السياسية غداة الإطاحة بالديكتاتورية 2003 سواء عن قصد ام بدونه ومنها: (ترسيخ دولة المؤسسات الوطنية وإصلاحها من خلال: مؤسسات دستورية فاعلة وراسخة، واعتماد الفصل الحقيقي بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مع ضمان حيويتها ومهنيتها وسيادة سلطاتها الاختصاصية، وتبني اقتصاد حر ومتعدد، وتمكين مجتمع مدني قوي وناشط) و(الالتزام الفعلي بضرورة التوزيع العادل للثروات على أساس النسب السكانية للمحافظات) و(الالتزام بقيم التعايش والتسامح والتآخي وقبول الآخر والانتماء الوطني ونبذ العنف واللا تسامح والتآمر والعدوان) و(العمل الجاد لتحرير الدولة وكل مؤسساتها من نظام المحاصصة العرقية الطائفية التمييزية إلى نظام الاستحقاق السياسي) و(العمل على توزيع الصلاحيات وتطبيق اللامركزية) و(تعزيز وتيسير الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحكم الرشيد والشفافية) ....الخ وهي أسس دولتية وحكوماتية اختلط فيها العامل السياسي مع العامل الاقتصادي مع العامل الأمني والمجتمعي وساهم غيابها جميعها او بعضها مرحليا بإنتاج دولة ضعيفة وعميقة سياسيا واقتصاديا ومخترقة امنيا فضلا عن أداء حكومي استشرى الفساد المالي والإداري فيه حتى النخاع، فالخراب الشمولي السياسي / الأمني/ الاقتصادي/ المجتمعي لا يستدعي مشاريع إنشائية وقوالب لفظية رنانة قد لا يفهم منها البعض سوى ديباجات غائمة وحالمة قد لا يتحقق منها الكثير على ارض الواقع، فعلى سبيل المثال إن الوثيقة أشارت إلى احد مكامن الخلل في الدولة العراقية وهو ما جعل هذه الدولة توصف بالعميقة وهو (سيادة القانون وحصر السلاح بيد الدولة وعدم السماح بوجود كيانات مسلحة أو ميليشيات خارج إطار الدولة) وفي الحقيقة أن اغلب الكتل السياسية لها اذرع مليشياوية ومسلحة تتقوى بها ضد بعضها البعض او ضد الدولة.
واهم بند طرحته الوثيقة يتعلق بسلوك الدولة العراقية المفترض (تعزيز وتيسير الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحكم الرشيد والشفافية) وان كان بشكل عموميات رومانسية فهدفت التسوية وبحسب ديباجتها الى وضع خارطة طريق لعراق جديد خال من الكراهية المتبادلة والتمييز الديمغرافي واللاامن ، واللاعدالة في توزيع الثروات وعراق بعيد عن التجاذبات السياسية المعرقلة لبناء الدولة ولغة المحاور الإقليمية وبناء دولة المواطنة والمؤسسات، وتحرير الدولة وكل مؤسساتها من نظام المحاصصة العرق ـ طائفية إلى نظام الاستحقاق السياسي على وفق معايير الكفاءة والمهنية والنزاهة وللحق والإنصاف فان اغلب بنود الوثيقة قد أُدرجت مسبقا في البرنامج الحكومي الذي طرحه السيد العبادي غداة تشكيله كابينته ان لم تكن قد اقُتبست مفاهيمها منه وكان على طارحيها الانتظار لحين التحقيق العملي لذلك البرنامج الذي كان شاملا في جميع رؤاه
مقالات اخرى للكاتب