نشر الرفيق فؤاد النمري, البارحة, مقالا على صفحات إيلاف بعنوان : "المخابرات السوفياتية ضد السوفييت" , يطرح فيه موضوعا في غاية التعقيد , و نظرا لأهميته المستجدة في فهم طبيعة المخابرات السوفياتية التي أذهلت العالم , اقترح على قراء الحوار المتمدن الأعزاء قراءة للمقال عله ينقل بأمانة جوهر الموضوع, كما أتمنى أن تكون القراءة نافذة إلى مقال الرفيق النمري.
لفك شفرة المخابرات السوفياتية المعقدة يقدم الرفيق النمري في البداية لقرائه الكرام مفتاحا من قواعد علم النفس و هو ما يسمى بحقيقة الذات (Ego) أو الذات الباطنية التي راكمت عبر تاريخ الطبقات من حب التملك و الذات و الفردانية ما يعقد مهمة التخلص من تلك الرواسب و استئصالها و نكرانها إلى حد إلغاء الذات. المهمة التي لا ينجح فيها إلا القلائل إن وجدوا في رأس هرم السلطة.
كان لينين يعي جيدا عمق الدروس الثمينة التي استخلصها ماركس من تجربة كومونة باريس. فقد رأى في الجيش و كل أجهزة الأمن بما فيها المخابرات التي يقودها الشيوعيون السوفييت الأبرار درعا لسلامة دكتاتورية البروليتاريا و حماية للثورة الاشتراكية العالمية من اجل الانتقال إلى الشيوعية, لذلك توجب على المخابرات السوفياتية أن تكون من الشيوعيين الأمناء الذين يعملون دون كلل و دون أي انتفاع شخصي من اجل سلامة العبور الاشتراكي, عكس المخابرات في الدول البورجوازية التي تتألف من موظفين يعملون مقابل أجور و امتيازات شخصية.
صبيحة الثورة باشر لينين هندسة عمل أجهزة الأمن التي أوضح مهماتها في تحصين الثورة, و قد عين فيليكس دزيرنجانسكي على رأس المخابرات. ثقة مصمم الاشتراكية السوفياتية في رئيس المخابرات كانت في محلها خصوصا و أن فيليكس دزيرجانسكي كان ماركسيا متمرنا متمرسا قاوم كل الصعاب دون أن تنال من معدنه الماركسي الأصيل قساوة سجون و منافي القيصر. شهد التاريخ على بطولة هذا الشيوعي المخلص لقضية الاشتراكية منذ أن كان يافعا حيث استطاع حزب البلاشفة أن يقهر أعداء الثورة و هم كثر خلال الحرب الأهلية و قد قال فيه ليف كامينيف عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي "...ما كنا لننجح بالقيام بأعمالنا الشيوعية لولا مساعدة المخابرات."
فارق دزيرجانسكي الحياة في يوليوز 1926 و قد خلفه حال وفاته نائبه الأول فياتشيسلاف مينجانسكي.
يحتدم الصراع الطبقي كلما تقدم البناء الاشتراكي , يقول ستالين, و هو ما عقد من مهمة المخابرات السوفياتية حال رحيل فيليكس خصوصا و أن الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين كان مقبلا على ترك السياسة الاقتصادية الجديدة التي استوفت شروط فعلها من اجل خوض "غمار" أول امتحان للبناء الاشتراكي مع أول مخطط خماسي , و قد لعبت فيه المخابرات السوفياتية بقيادة مينجانسكي دورا كبيرا بين 1927 و 1932 في إحباط محاولات وأد الثورة من طرف الكولاك التي تمثلت في تجويع البروليتاريا و كشف مؤامرات العصابات التروتسكية التي تمثلت في تخريب المصانع و المعامل.
دخلت المخابرات السوفياتية منعطفا جديدا مع تولي جانرخ ياغودا عندما فارق مينجانسكي الحياة عام 1934. فقد أفادت التحقيقات أن الثنائي زينوفيف و كامينيف عضوا المكتب السياسي للحزب الشيوعي أنهما كانا وراء اغتيال الرجل الثاني للحزب سيرجي كيروف, كما أفادت تقصير ياغودا المفضوح في مهامه إزاء قضية كيروف مما تسبب في تنحيته من الإدارة و إسنادها إلى نيكولا ايزوف .
لم تتوقف التحقيقات, إبان حملة التطهير 1937, في إدانة ياغودا بخصوص قضية كيروف و تواطئه المشبوه مع التروتسكيين بل أفادت تورطه في اغتيال كاتب رواية الأم الكاتب المحبوب ماكسيم غورغي و تسميم ابنه بالتبني. اعترف ياغودا انه كان يسمم رئيسه مينجانسكي ليحل محله.
اعدم ياغودا بعد أن خلف ضررا كبيرا بعيون حرس الثورة الاشتراكية.
إذا كانت المخابرات تحرص ,بيقظة فائقة و كأنها العين التي لا تأخذها سنة و لا نوم, على أن تصل إلى المعلومات قبل أن تترجم إلى فعل مدمر لمصير الثورة, و قد نجحت في ذلك أيما نجاح مع الشيوعيين الخلص فيليكس دزيرجانسكي و خلفه فياتشيسلاف مينجانسكي خلال فترات عصيبة من الثورة, فكيف فات مينجانسكي أن ينوب عنه مجرم سافل كياغودا لتبدأ سلسلة المجرمين السفلة الذين سينحطون إلى محاولة بل اغتيال ستالين قائد أركان البروليتاريا؟؟؟
في ما العمل؟ يؤكد لينين أن طلائع البروليتاريا تأتي من خارجها أي من البورجوازية و خاصة الوضيعة و هو ما يهدد مصائر الاشتراكية ما إذا لم يتطهر طلائعيو البروليتاريا من الذات البورجوازية المنتفخة فأن يتحول المرء, يقول الرفيق فؤاد النمري: " من بورجوازي وضيع إلى بروليتاري هو أمر في غاية الصعوبة, و هو ليس مجرد خيار يختاره الإنسان بكل وعيه, بل هو تغيير بنيوي لا يكتمل إلا عبر إلغاء لا يتوقف للذات."
تولى نيكولا ايزوف إدارة المخابرات ما بين 1936-1938 الذي استأنف طريق سلفه ياغودا في تلطيخ النهج اللينيني بدماء الأبرياء و اغتيال خيرة كوادره, فقد تدبر إعدام 14 ألف مواطنا منهم شيوعيون انقياء بل تعدى الأمر ذلك إلى محاولة اغتيال ستالين نفسه, ليتضح جليا أن التصفيات بالجملة التي اتهم بها ستالين إنما كانت في الواقع تصفية الشيوعيين الاقحاح الثابتين على نهج لينين.
اعتقل نيكولا ايزوف و اعترف بجرائمه و خلفه في رئاسة المخابرات مجرم يفوقه إجراما بيريا لافرنتي الذي دس سم الورفارين في شراب ستالين أثناء العشاء الذي دعا إليه الأعضاء الأربعة في المكتب السياسي (خروتشوف , مالينكوف, بولغانين و بيريا) في يوم 28 فبراير 1953.
سطع نجم بيريا و قد أصبح ماريشالا و عضوا في المكتب السياسي و نائبا لرئيس الوزراء بعد أن نجح في وظائف مهمة لحماية الاتحاد السوفياتي من العدوان النازي و تنظيم المقاومة المدنية . قبل انتهاء الحرب عبد بيريا الطريق لمنظمة أطباء شكلها إلى الجهاز الطبي الخاص بالكريملين .
كانت ضحايا تلك المنظمة زبدة الشيوعيين, فقد اغتالت سكريتير الحزب الشيوعي في موسكو, رئيس رابطة الكتاب السوفيات الكساندر شتشرباكوف 1945 و في 1948 أنهت حياة اندريه جدانوف الرجل الثاني في الحزب الذي خلف كيروف.
بناءا على مذكرة الطبيبة المختصة في علم الأمراض ليديا تمشوك التي تشير إلى أن هناك مجموعة من "الأطباء يتآمرون على صحة القادة السوفييت عن طريق وصفات طبية تفاقم المرض و لا تعالجه" , أمر ستالين بفتح تحقيق فوري أسفر عن صحة مضمون مذكرة ليديا.
من المؤكد أن بيريا كان يعلم بكل مجريات التحقيق و تفاصيله الدقيقة نظرا لمنصبه النافذ, فادر كان التحقيقات ستفضح عمله الشيطاني فكان أن "تغذى بستالين قبل أن يتعشى به" في العشاء الذي دعي إليه من طرف ستالين. ما يؤكد ذلك هو أن بيريا سارع إلى إطلاق سراح الأطباء المعتقلين جراء التحقيقات التي قامت بناء على مذكرة تمشوك مباشرة بعد وفاة الرفيق ستالين ليتهم كبير المحققين و يعلن بطلان تحقيقه ثم إعدامه. "ويرى مولوتوف أن مالينكوف كان شريكاً لبيريا في الجريمة كما أن خروشتشوف كان على علم مسبق بها . إعتقال بيريا بعد ثلاثة شهور ومحاكمته سرياً خلافاً للنظام وإعدامه تبرر بقوة اتهامات مولوتوف."
من هذا اللمحة السريعة لحقيقة المخابرات السوفياتية قد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أننا نقول بنظرية المؤامرة بعيدا عن مجريات الصراع الطبقي, بل بالعكس تماما فإننا نؤكد أن ما لحق بإدارة المخابرات السوفياتية و كل الدوائر البروليتارية من جيش و شرطة و ...هو من آليات الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي. فالشيوعي لا يغدو نصيرا لقضية البروليتاريا إلا إذا تنكر تماما لذاته و ألغاها في عملية لا تتوقف إلا بانتهاء الصراع الطبقي, و هو لا يغدو أمينا على مصائر الاشتراكية و إن كان يدعي الماركسية و سيظل خطرا عليها حال يكف عن نكران ذاته و إلغائها.
مقالات اخرى للكاتب