أسقطت وثائق بناما التي تشكل أكبر عملية تسريب في التاريخ، السرية عن ملاذات ضريبية بقيت طوال عقود «جنات» ضريبية لأقوى وأغنى رجال العالم. ومع ذلك لاتزال آثار هذه الهزة محدودة، وتقتصر في الغرب على استقالة رئيس الوزراء الأيسلندي، سيغموندور غونلوغسون الذي تبين أنه استعمل شركة «أوفشور» من أجل إخفاء ثروته. أما في الشرق، مريض الفساد حتى الذوبان فيه، فالأمر مختلف. رد الفعل الأول كان التعجب من «ضآلة» الارقام المالية المخبأة للحكام والمسؤولين والشخصيات العربية والتي يتجاوز بعضها عشرات الملايين من الدولارات، فهذه أرقام مخجلة، ولا تليق بصغار اللصوص، فكيف إذا كانوا برتبة رئيس أو أمير أو ملك؟ وهكذا يخشى أن تمر قضية بهذا الحجم وهذه الصفقة كما مرت من قبل عاصفة «ويكيليكس» التي حفلت ملفاتها بفضائح ومعلومات سياسية على درجة عالية من الإثارة، ومع ذلك جرى تجاوزها وتسجيلها في خانة النميمة السياسية.
التسريب الأخير الذي فضح خبايا بعض من كبار زعماء العالم السابقين والحاليين، ليس الأول من نوعه، إذ سبق لتسريبات أن فضحت لجوء نافذين كبار الى «جنات» ضريبية لإيداع أموالهم. ولعل آخرها كان العام الماضي عندما كشفت تسريبات لملفات سرية لدى مصرف «أتش أس بي سي» البريطاني أن وحدته السويسرية ساعدت بعض عملائها الأثرياء على تفادي الضرائب عن طريق تسويق حسابات أو منتجات مالية تساعد على تجنب الضرائب وإخفاء أصول بملايين الدولارات والسماح لعملائها بسحب مبالغ نقدية ضخمة تصعب متابعتها.
وتلك التسريبات التي كشفها موظف سابق في قسم تكنولوجيا المعلومات في المصرف البريطاني شملت 30 ألف حساب تقارِب قيمة أصولها 120 مليار دولار يملكها مشاهير في السياسة والفن والرياضة والأعمال.
واذا كان من غير المستغرب ان يلجأ الطغاة في العالم عموما وفي الشرق والدول العربية خصوصا، إلى كل الاساليب الملتوية والمخادعة والاجرامية، لحماية الاموال التي نهبوها من كد شعوبهم وسرقة الثروات الوطنية لبلادهم، فإنّ تورط رجال ونساء، مواطني ديمقراطيات غربية تسود فيها دولة القانون، على غرار بريطانيا وإسبانيا والنمسا واليونان ونيوزيلندا وأستراليا وآيسلندا…
هو الذي يضيف قيمة خاصة إلى «وثائق بناما». وليت أساليب التحايل اقتصرت على إنشاء شركات وهمية تتيح التهرّب من الضرائب، أو تمويل صفقات سرّية لتبييض أموال شتى أصناف الاتجار غير المشروع، أو إدارة أنشطة مالية محظورة، أو تكديس ثروات خارج أي رقابة مالية… الأدهى هو تورط شركات عالمية كبرى، في مساعدة عدد من مجرمي الحرب على التملص من عقوبات مفروضة عليهم من جانب مؤسسات عالمية ودول عظمى. وهكذا فان نسبة متزايدة من الثروة والدخل الخاص باتت مخبأة في الخارج تحت حماية عصابات من المتخصصين كالبنوك الخاصة، ومكاتب المحاماة، وشركات في قطاع
الاستثمار وغيرها.
والأشد وقاحة أن تدافع هذه الشركات مثل شركة الاستشارات المالية «موساك/ فونسيكا» عن ارتكاباتها بالقول انها لم تخالف القانون، وكل ما فعلته هو «تنفيذ صفقات اندماج أو حيازات عابرة للحدود، أو إجراء معاملات إعادة الهيكلة واجتذاب الرساميل من مستثمرين ينتمون إلى أنظمة قضائية متباينة، ويبحثون عن نظام قانوني وضريبي محايد».
يبقى، بالطبع، أنّ ما افتضح حتى الساعة، وما سيفتضح في مقبل الأيام، ليس سوى أسرار السطح التي كانت مفتضَحة في الأساس، وتلهج بها الألسن، خصوصا في ظل أنظمة الاستبداد والفساد.
اكثر من ذلك فان «وثائق بناما» يمكن النظر اليها بخلاف الطريقة التي يتم تفسيرها فيها الآن.
فهي لا تقوم بفضح الفساد بقدر ما تكشف طرق عمل وتداعيات رفع القيود عن الاقتصاد، وتزايد تأثير القطاع المالي، وفرض عقائد السوق الحرة في العالم. ناهيك عن أن معظم الشخصيات السياسية المشاراليها في هذا التسريب هم رجال أعمال يمكنهم التعدّي على الموارد الطبيعية والأراضي والأملاك العامة. والكثير منهم ساهم على مدى العقود الثلاثة الماضــــية بتجريد واستــــغلال وسلب شعوب بلاده. وليس لهؤلاء حاجة أحياناً للتـــــهرب من الضرائب من خلال تأسيـــس شركات تسجل في الخارج.
على رغم كل ذلك، يبقى الأمل بمستقبل أفضل قائماً. مستقبل تقوم فيه منظومة بديلة، تهدف إلى جعل الحياة أكثر عدلاً، ولا ترهق كاهلَ الغالبية العظمى منا «جنات» اقتصادية وضريبية، قامت من أجل تراكم الثروات وتعميق الفوارق بين البشر.
مقالات اخرى للكاتب