استطاع الهندوس والسيخ والبوذيون والمسلمون والمسيحيون أن ينقلوا الهند الى دولة صناعية ويحققوا منجزات تنموية كبيرة ويبنوا دولة مؤسساتية قوية بعد أن خرجت بلادهم من مرحلة الاستعمار البريطاني الذي أفقرها طيلة احتلال دام أكثر من قرن، ويعود ذلك الى سياسة محورها الخارجي الحياد ومحورها الداخلي البناء والعلم في بلد تتوزع فيه المعضلات والمشاكل بالعشرات على كل مدينة وقرية لدرجة أن عدد اللغات فيها أكثر من 21 لغة قومية وسبع ديانات رئيسية وعشرات المذاهب. وانبثقت من الهند دولتان هما باكستان وبنغلادش.الا أن الهند الأم بقيت قوية وموحدة ولم ينشأ فيها نظام مركزي إنما نظام ديمقراطي حقيقي ولا مركزي(28 ولاية وسبعة أقاليم اتحادية). وكانت وما زالت بعيدة عن الانقلابات العسكرية ومستقرة لكنها عملت بصمت على تقوية إمكانياتها الذاتية عسكريا دفعا لعوادي الزمن وتحسبا من قوة الجيران خاصة الصين وباكستان. فمن الصين خطر التفوق البشري (مليار وخمسمائة مليون فيما الهند تزيد على المليار بمأتي مليون )والتكنولوجي ،ومن الباكستان خطر التفوق النووي.
وبسبب سياستها المحايدة التي أتاحت لها النهوض بإصلاحات اقتصادية كبرى سنة 1991 بعد مسيرة تنموية شهدتها منذ استقلالها عن بريطانيا سنة 1947 وإعلانها الجمهورية سنة 1950 فقد أصبحت في المرتبة الثانية عشر كأكبر اقتصاد في العالم، وهي لاتملك النفط ، واحتلت مكانتها بين مجموعة دول " البر يكس" الخمسة " الدول الأسرع نموا في العالم " روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، حيث تتوقع لها مجموعة غولدمان سايكس البنكية الغربية تفوّق اقتصاديات البر يكس منتصف هذا القرن على أبعد حد على اقتصاديات الغرب كله.
فالحكمة لديها أن اتبعت سياسة الحياد حيال الصراع الدولي، وسياسة داخلية تنموية استطاعت جرائها بناء قوات مسلحة مهنية متقدمة ومتطورة ولم تعتمد بشكل نهائي على الكثرة العددية كونها ثاني اكبر بلد في العالم من ناحية عدد السكان وهذا عبئ كبير على اقتصادها ونجحت الدولة الهندية في إتباع سياسة عدم إرهاقه أو إغراقه بالديون بمساندة القطاعين العام والخاص على حد سواء. والحياد خلق في أوروبا السويد وجعلها في أول سلسلة الدول التي يعيش شعبها بأعلى درجات السعادة والاطمئنان، وهكذا بالنسبة للنمسا التي أصبحت قدوة حضارية في أوروبا والعالم.
وظروف الهند والسويد والنمسا فيها الكثير من ظروف بلدنا الذي لم ينتهج واقعيا لحد الآن فلسفة الحياد التي تتطلب استباق الزمن ووضع أسس لها كي ينهض العراق على طرق علمية سليمة بعيدا عن العسكرة من دون التهاون في خلق قوات مسلحة مهنية قادرة على تلبية حاجة البلد في الدفاع عنها وردع دول الجوار.
صحيح أن الحياد يتطلب التضحية بأمور معينة لضمان الاستقرار لكنه يتطلب أيضا ترك ثقافة جعل الأماني والتمنيات أهدافا كبرى لأن هذه الأمنيات توهم التوجهات الإستراتيجية بما يؤدي الى أخطاء قاتلة وتضحيات اقتصادية وبشرية جسيمة غير مبررة. طبعا هذه المسألة لا تعني أن يتخلى العراق عن واجبه القومي في المنطقة إنما عليه الالتزام بالعمل الجماعي فيها ويكف عن الاعتقاد السائد بأنه المسؤول الوحيد عن أماني العرب وأهدافهم ولعل ما مر به من تجارب توضح مآسي وأفكار وأهداف سياسية اتخذها وهو يفتقد الى الأرضية الصحيحة، إذ ليس من الصائب أن يتصور العراق أن الأماني القومية برقبته فقط من دون البلدان العربية الأخرى ،أو أنه مسؤول لوحده عن نجاح وديمومة الانتفاضة الفلسطينية أو أنه يستطيع أن يلعب دور البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي في أفريقيا وآسيا في الوقت الذي يحتاج العراقيين إنشاء بنية تحتية لهم في جميع المجالات، مواصلات وتربية وتعليم وصحة واقتصاد وصناعة وإسكان وزراعة وسياحة الخ.
وليس من الحكمة أن تتصور أية حكومة عراقية أنها مسؤولة عن رد جميل حكومة دولة أخرى على بعض شخصياتها خلال مراحل العمل السياسي، لأن العراق شيء وأشخاص الحكومة شيء آخر،إذ لا يجوز التبرع لأحد بحقوق العراق حتى لدولة كانت لها دالة على أشخاص قياديين فيه. مثلما لا يجوز التنازل عن حقوق العراق التاريخية في أرضه ومياهه واقتصاده من أجل الحفاظ على السلطة والاستمرار بالحكم في عملية تخادم متبادلة مثل اتفاقية الجزائر لسنة 1975 وعدم الحرص على حقوقنا في الآبار النفطية على الأراضي الحدودية والمياه والأراضي الوطنية التي برزت خلال هذه المدة . فهذه أمور تتناقض مع الحياد.إنها تعني الانصياع.
لقد نجح الزعماء ، نهرو الهندي وتيتو اليوغوسلافي وعبدالناصر المصري ،في تأسيس دول قوية في آسيا بالنسبة للأول وأوروبا بالنسبة للثاني وأفريقيا للثالث ضمن منهج وفلسفة الحياد وعدم الانحياز وأنشأوا مع رابعهم الاندونيسي أحمد سوكارنو حركة عدم الانحياز وسط صراع القطبين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وشكلوا كتلة موازنة عالمية ساهمت في تخفيف حدة التوتر وإنقاذ العالم من حرب كارثية نووية على الرغم من الحرب الباردة التي كانت تحكم طبيعة العلاقات الدولية. وحافظت هذه الدول القوية على حقوقها الوطنية ولم تفرط بها لأي سبب كان.
لقد بدأ دور العراق الجمهوري الذي حاول إتباعه ولعبه على المسرح الإقليمي كدور رائد، بالتراجع نظرا لاهتمامه المتزايد بالتسلح لمواجهة المسألة القومية الكردية بالسلاح بدلا من الحوار منذ سنة 1961 وذلك على حساب العلم والتنمية. وعلى الرغم من ازدياد ،ولربما تضاعف الموارد النفطية ،الا أن تلك الموارد لم تستطع تغطية النفقات التي تطلبتها الحروب التي دخلها مما اضطره الى الديون التي تضاعفت أيضا في ظل استمرارية التنقل من حرب الى حرب مرورا بالحصار القاتل للمجتمع ولمؤسسات الدولة في وقت تدهور فيه الدور الرائد الذي كان يطمح أن يلعبه كقوة إقليمية عظمى تدهورا تناسب طرديا مع استمرارية الضغوط الهائلة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا للحروب التي انتهت باحتلاله وفقدان استقلاله ودولته الحديثة، وليس كذلك فقط أنما فقد أيضا دوره القديم وكل الأفكار والنظريات التي أصبحت لا تتواءم مع الواقع الجديد للعراق بعد المغادرة القانونية ظاهريا لقوات الاحتلال. وحسب ابن خلدون في مقدمته فان هذه الهزات الزلزالية الكبرى تنتج خلقا ،بفتح الخاء والقاف، جديدا لا علاقة له بالذي قبله الذي كان عليه. لكن الواقع غير ذلك بنتائجه السياسية التي خلقت صورة جديدة من ناحية الشكل وقديمة من ناحية الموضوع التي أنتجت بدورها المأزق والفشل العراقي الحالي.
الهند هزمت بريطانيا بقوة السلام (مقاومة اللاعنف) الذي استخدمته لتعجيز الاستعمار ونجحت في كسر جناح الإمبراطورية واستمرت نجاحاتها التي مرت بحرب أهلية ذهب ضحيتها أكثر من مائة ألف مواطن وعلى الرغم من ذلك تمكنت من بناء دولة قوية لكنها محايدة بعيدا عن الغرور حينما استوعب قادتها أهمية السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية.وهذا الأمر جعل المهاتما غاندي والبانديت جواهر لال نهرو زعيمان خالدان للآمة الهندية وليس لحزب المؤتمر فقط. ولهذا استمر نهرو رئيسا للوزراء وقائدا لمسيرة بلاده بالانتخاب من الاستقلال سنة 1947 ولغاية 1964 وهو في سن إل 75 عاما، ثم الزعيم الكبير على الرغم من ضئالة جسمه بهادر شاستري ثم الخالدة أنديرا غاندي من 1966 ولغاية 1977حين قتلت بيد المتعصبين ممن ينتمون الى دينها ومذهبها.
هل نستطيع أن نصبح مثل الهند؟ أعتقد لا نستطيع لوجود إصرار على بقاء الأزمة الداخلية ورفض الحياد. وبمقولة أخرى أيضا نستطيع أذا انعكست الآية
مقالات اخرى للكاتب