كتب الرئيس الأسبق بيل كلينتون في مذكراته أن الأمر الوحيد الذي يجعله يشعر بالندم أثناء فترة حكمه للولايات المتحدة هو تقاعسه عن وقف المذبحة الجماعية في رواندا. هذا الاعتراف الإنساني يقابله تجاهل الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما لمذبحة أشد هولاً تجري فصولها في سوريا منذ ما يقارب خمس سنوات. ولعل الفارق بين الاثنين أن الأول ندم عندما خرج من السلطة، ولعل «الثاني» أوباما، وعلى عادة قادة دول الغرب عندما يخرجون من السلطة، سيندم هو الآخر ويُسطِّر ندمه في مذكرات تدر عليه ملايين الدولارات! وبعيدًا عن فضيلة الندم فإن أوباما برهن خلال سني الأزمة السورية على قناعة واضحة بأن أوليته ليست إزاحة الأسد، وإنما التوصل إلى اتفاق مع إيران يوقف مشروعها النووي، وبالتوصل إلى هذا الاتفاق فإن أوباما لا يزال، على ما يظهر، ماضيا في تجاهل الأزمة السورية، رغم أبعادها الإنسانية الملحة، وإنما هذه المرة ليس بدافع التوصل إلى اتفاق وإنما بدافع تعزيز الاتفاق، على أمل أن تغير طهران من سلوكها، وتقبل بحلول واقعية تتلخص في خروج الأسد من السلطة.
يلتقي أوباما مع الرئيس بوتين في الملف السوري حول قاعدة أساسية أن الحل يجب أن يكون سياسيًا، ومعنى ذلك أن يضمن كل منهما ألا ينتصر الأسد ولا المعارضة، وبالتالي ترتفع وتيرة القتل والتدمير، وبالتحديد في صفوف المدنيين والبنية التحتية لسوريا، وكلاهما مجمع أيضًا على أن يفلت الأسد من العقاب! وبالمماثلة ترى الدول الإقليمية الفاعلة ضرورة الحفاظ على الدولة السورية ويترتب على ذلك ألا ينتصر طرف على آخر. هذا التوافق الدولي والإقليمي تجري عقلنته بأسباب متنوعة بهدف اللعب على الوقت بانتظار حدوث متغيرات دولية وإقليمية تسرع من الحل الذي قد يرضي الجميع. ومما يصعب عملية الحل السوري أن تشبث الأطراف الدولية والإقليمية بمواقفها المعلنة جعلها رهينة لتلك المواقف. ولعل المأساة الكبرى في سوريا أن تلك المواقف الدولية والإقليمية المتمسكة بلعبة الانتظار ساهمت في تعقيد المشهد من خلال فسح المجال أمام ظهور تنظيم داعش الذي حول المشهد السوري من ثورة شعب يطالب بالحرية إلى مشهد إرهاب تتوافق الدول الكبرى والإقليمية على ضرورة محاربته بكل الوسائل المتاحة.
الناظر للمشهد الدولي بوسعه أن يرى أن ثمة ارتياحًا أميركيًا لبقاء الوضع على ما عليه، ورضا روسيّا بصمود الأسد، لكن في الواقع الإقليمي فإن الصراع بين إيران والمملكة العربية السعودية تحول صراعًا مكشوفًا في اليمن، ومستترًا في مناطق أخرى. وهذا الصراع على ما يبدو لا يزعج لا الأميركيين ولا الروس، وبالتالي فإنه مرشح للاستمرار مع ما يترتب عليه من مزالق خطرة للغاية قد تطيح في لحظة بنظام التوازن القائم في الشرق الأوسط. تبدو إيران مصممة أكثر مما مضى على تعزيز مكتسباتها مدفوعة بالدعم الروسي، والانفتاح الأميركي، وبالمسايرة الأوبامية لها، لا سيما أن أوباما لمح مرارًا إلى أن إيران تضبط ميليشياتها الإرهابية من أجل تحقيق مكاسب سياسية، وأنه يمكن بالتالي التوصل إلى تفاهمات واتفاقات معها. ولا غرابة أن نجد دائمًا وكل يوم تصريحات إيرانية تتحدث عن قدرات إيران، وانتصاراتها، وهدفها بتوحيد العالم الإسلامي لمحاربة إسرائيل، وقهر الإمبريالية!
لا شك أن إيران استطاعت أن تخرج من العزلة، وأن تصبح دولة فاعلة وقوية، لكنها ستبقى دولة فاعلة بين دول فاعلة أخرى في موازين القوى في الشرق الأوسط. ولعل الوصف الأدق الذي ينطبق عليها هو ما قاله المؤرخ Ludwig Dehio عن ألمانيا بعد توحدها في عام 1871 بأنها كبيرة جدا لدرجة لا يتحملها ميزان القوى في أوروبا، وليست قوية بما يكفي لتكون هي المسيطرة. فإيران أصبحت دولة قوية بالفعل ولديها امتدادات في المنطقة لم يعد ميزان القوى السائد في المنطقة يتحمل وزنها، لكنها ليست قوية بما يكفي لتهيمن وتسيطر على المنطقة. وكما اقتنعت ألمانيا عبر تاريخها بأن للهيمنة سعرًا مخيفًا فإن إيران عليها أن تعي أنها ستدفع أثمانًا مشابهة. لكن بالمقابل على الدول العربية المعارضة لسياسة إيران أن تعي هي الأخرى طبيعة إيران وثقلها ووزنها، وبالتالي عليها أن تضع سياسات تجبر إيران على القبول بمبدأ توازن القوى، والتخلي عن الهيمنة. وهذه السياسات المطلوبة الواجب اتباعها يفترض أن تنبني على تحالفات دولية، وعلى تحركات عملانية على الأرض.
وعلى الرغم من الصورة التي تروج لها إيران، فإن القيادة الإيرانية تواجه انكسارات في اليمن واستنزافًا في سوريا، وغيابًا للاستقرار على حدودها مع العراق، وخللاً في تحالفاتها مع حماس، ووضعًا قلقًا في لبنان، ومع ذلك استطاعت أن تصمد لا بدافع القوة المحض، وإنما من خلال رؤية تحالفية مع روسيا ودول أخرى، وتصالحية مع أميركا، وتعاقدات مع جماعات محلية داخل دول المنطقة، ومن خلال دعاية دينية وقد ضخت إيران كثيرًا من المال (30 مليار دولار) في دعم النظام السوري، وعددًا كبيرًا من الرجال، ومع ذلك تناقصت رقعة أراضي النظام السوري، وتراجعت هيبته، وأصبح بالتالي الحديث عن مرحلة ما بعد الأسد حتميًا. فالروس يعرفون أن الأسد لا مستقبل له، وبالتالي فإن حقنه بالمقويات هدفه ليس استعادة حكمه وإنما تحسين شروط الوجود الروسي في المنطقة، وكذلك تهدف إيران هي الأخرى إلى حماية مكتسباتها في لبنان، وتشريع نفوذها في العراق، ولا تمانع الإدارة الأوبامية هذه المطالب طالما أن التسوية النهائية ستكلل بخروج الأسد، وقبول إيران بمبدأ توازن القوى، وطالما تبقى «أميركا» هي المايسترو الأوحد لشؤون المنطقة.
حتى تتحقق التسوية المطلوبة سيكون الخاسر الأكبر الشعب السوري، والسمعة الأخلاقية لأميركا، فالرئيس الأميركي لم يجد غضاضة عندما سئل عن الدماء التي تسال في سوريا أن يقول: «كيف لي أن أوازن بين عشرات الآلاف الذين يقتلون في سوريا وبين عشرات الآلاف الذين يقتلون في الكونغو؟». بعبارة أخرى: العالم ملآن بالمظالم.. ماذا أفعل؟!
مقالات اخرى للكاتب