إن البناء التربوي والمعرفي ،والثقافي لدى أفراد المجتمع, يبدأ من العائلة , بالإضافة إلى تأثير المجتمع, ووسائل الاعلام المرئي والمسموع، ثم المؤسسات التربوية والتعليمية, ليكون بناء تراكمياً يُرسَم, ويخطط له،ويُسيطر على تطبيقه من العائلة والمؤسسات التعليمية، وإنٌ التقصير في أي مرحلة من مراحل هذا البناء التراكمي, والتنموي سيكون له أثر سلبي على باقي المراحل، وبالتالي على المُخْرج بأكمله، لذا أنّ اكتشاف الخلل وتحديده لأحد المراحل الحياتية يجب أًن يعالج، ففي حالة وجود خلل في أحد المراحل الحياتية، ستكون له نتائج كارثية تؤدي الى نشوء مجتمع يسوده الجهل والتخلف، وربما الجريمة لا سمح الله.
ان ما مر به العراق ومنذ الثمانينات في القرن الماضي من حروب وقهر وتعسف واضطهاد لكثير من شرائح المجتمع العراقي يالاضافة الى مؤسسات اعلامية ووسائل ثقافية مؤدلجة للتمجيد بالحاكم ومن ثم حصار وحرب اقتصادية قاهرة على الشعب العراقي سببت التراجع الكبير في المنظومة التعليمية الثقافية العراقية والتي نعاني منها لحد الان. ومن هنا بودي ان اركز على ما يجب ان تكون عليه النخب الاكاديمية علميا ومهنيا اضافة الى الواجبات الوظيفية، التعليمية والبحثية، الاخرى المناطة بهم للنهوض بمؤهلات الطالب الجامعي وللتعويض وسد الضعف والقصور في الحلقات التنموية،الاجتماعية والتربوية، لما قبل المرحلة الجامعية كحالة وطنية تضمن مستقبل افضل لجميع العراقيين وبضمنهم ابناء واحفاد النخب الاكاديمية.
ان اعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات هم العنصر الاساسي في صقل مواهب الطلبة علمياً وتأهيلهم مهنياً, بالاضافة لما لهم دور في البناء التربوي والثقافي ، في مختلف التخصصات ضمن برامج معدة من لجان من ذوي الاختصاص وممن لهم الخبرة في مجال تخصصهم وبالتنسيق مع ادارات الجامعات ووزارة التعليم العالي، بالاضافة الى مهمة البحث العلمي . اي ان المهمة الرئيسية لتدريسي الجامعات العراقية هي التعليم والبحث العلمي وهذا ما هو سائد في معظم جامعات العالم.
لذا ان التدريسين في الجامعات لهم دور مهم وبالغ الاهمية في عملية البناء المعرفي وفي احداث التغيير المنشود في المجتمعات لما يقوموا به من جهد تعليمي وتربوي وثقافي وتنويري ينعكس على جودة مخرجات الجامعات بشكل مباشر وعلى التنمية البشرية في المجتمع عموماً وبشكل غير مباشر. ان دور مؤسسات التعليم العالي في العراق وتأثيره على شريحة الشباب من المجتمع العراقي ضمن حقبة عمرية مهمة، بعمر 18-25 عاماً ، لا يقل اهمية ودور باقي مصادر التنشئة الاجتماعية كالاسرة والمدرسة في اكساب شريحة المجتمع للفئة العمرية ما دون الـ18 سنة في مختلف التخصصات او المهارات المهنية بالاضافة الى امكانية تغيير بعض العادات والسلوك الاجتماعي. أن الحقبة الزمنية التي يمضيها الطالب في كنف التعليم العالي وتزامنها مع نضوجه يجعل التعليم العالي من اهم مصادر التنشئة الاجتماعية.
ولذا يجب ان نطرح الاسئلة الاتية :-
هل ان مؤسسات التعليم العالي العراقية ممثلة بتدريسييها تقوم بالدور المأمول منها في التنشئة الاجتماعية؟
هل ان مؤسسات التعليم العالي العراقية تخرج اجيالاً قادرة ومؤهلة على خدمة مجتمعها ووطنها علمياً ومهنياً؟
3.هل ان مؤسسات التعليم العالي العراقية تؤدي رسالتها بما يتناسب والامكانيات التي تمتلكها وما توفرها الدولة لها؟ 4.هل هناك ضوابط لاخلاقيات مهنة التعليم الاكاديمي ، يلتزم بها التدريسي، بشكل عام وبضمنها علاقة التدريسي بالطالب بشكل خاص. عندما نعود ونركز على خريجي مؤسسات التعليم العالي العراقية ومنذ الثلاثينات من القرن الماضي ولغاية السبعينات من نفس القرن،وخريجي الجامعات للسنوات التي تليها، ولحد الان يمكن ان نلمس الفرق الواضح بينهما, بالرغم من وجود الشواذ في هذين التعميمين, لنجد ان الشريحة الاولى قد شكلوا نموذجاً راقياً في الاداء والمهنية والتعليم والثقافة العالية والاخلاق الحميدة والتي تعلموها على ايدي اساتذة عظماء آمنوا برسالتهم، وتحلوا باخلاق مهنتهم مع قناعاتهم وقبولهم بالنزر اليسير من الامتيازات ،والحوافز، والرواتب، التي لا تمثل إلا جزأ بسيطا عند مقارنتها بما يتقاضاه اقرانهم على المستويات المحلية والعربية بالاضافة للعالمية.
ومن خلال تجربتي كطالب في مختلف المراحل الدراسية وصولاً الى المرحلة الجامعية خلال حقبة الستينات من القرن الماضي ومن ثم عملي في جامعة الكوفة، ومعايشتي لباقي الجامعات العراقية،ولسنوات قاربت الاربعين عاماً تلمست ثمة اشكالات وتناقضات تعتري المشهد الاكاديمي وتحيده كمصدررئيسي من مصادر التنشئة الاجتماعية, ولعل الفقرة التي تخص علاقة المدرس بالطالب ومالها من تأثير على مخرجات التعليم. اذ تغيب القدوة والمثل السامي الذي ينظر اليه ويقتدي به الطالب، والذي لا يقتصر على الجامعة وانما حتى في مؤسسات وزارة التربية، والذي يؤشر لخلل جسيم اصاب مؤسسات التربية والتعليم العالي والثقافة بشكل خاص والذي اثر على مؤسسات الدولة والمجتمع العراقي بأكمله. ومن اهم ما يؤخذ ومؤشرعلى بعض التدريسيين ،حاليا، في مؤسسات التعليم العالي هي الآتي:-
1.تخندق بعض التدريسيين، وفرض طوق بما لا يسمح للطالب التقرب منهم واعتباره من الفئة الادنى والتي يجب الابتعاد عنه متصورين ان هذه الالية ستجلب لهم الاحترام والاطاعة.
2.جهل الطالب بحقوقه وفقدان ثقته ببعض تدريسيه لتعرضه أو بعض من زملائه لبعض الحالات السلبية وخشيته من جحود اساتذته فيما يتعلق بتقييمه والدرجات التي ستمنح له جراء ادائه في الامتحانات .
3.عدم ثقته في اللجان التحقيقية التي تشكل للنظر بشكوى الطلبة لبعض حالات التعسف التي تحصل لهم من قبل اساتذتهم.
4.استغلال وقت المحاضرة من قبل بعض التدريسيين للحديث الغير العلمي أو لانتقاد زملائهم من التدريسيين أو ادارة مؤسساتهم او الحديث بالسياسة او بالأحاديث غير المهنية مما يقلل شأنهم علنية امام طلبتهم ومن حيث لا يعلمون.
5.عدم اهتمام بعض التدريسين بهندامهم واناقتهم وحتى نظافة ملابسهم.
6.الالتجاء للاعراف العشائرية او الاحزاب عند محاسبة تدريسي،بسبب مخالفة صدرت منه،ضمن الضوابط والقوانين السائدة .
7.سلبيات اخرى لا اريد ان اذكرها كي لا يفقد المجتمع لا سمح الله ثقته بجميع التدريسين من الاكاديميين. ولذا أآمل ان يقف الشرفاء من التدريسين بوجه المسيئين، وممن لا تتشرف مؤسسات التعليم العالي العراقي بأنتمائهم لها, وتقويمهم واصلاحهم ليكون مردودهم لابنائهم قبل ابناء الاخرين. ومن هنا على ادارات الجامعات ان تقف على طبيعة ونوع العلاقة التي تحكم المدرس بالطالب وان تقوم بحماية حق الطالب وان تحقق له بيئته تعليمية أمنة ونقية تحميه من تغول بعض التدريسيين وتفعيل مواثيق الشرف واخلاقيات المهنة في التعليم العالي والعمل على تنفيذ الامتحانات بطريقة محوسبة، لابعاد تأثير الاهواء الشخصية لبعض التدريسين، وتشكيل لجان تحقيقية ذات مصداقية ونزاهة تقف على مسافة واحدة بين الطالب والمدرس ولا تحابي زملاءهم من التدريسيين على حساب الطلبة الذين هم ابناؤهم واشقاؤهم كما يجب الاعتماد
على اسس لاختيار اعضاء الهئية التدريسية الجدد وكما اشرنا اليها في مقالتنا السابقة والموسومة (اجازة ممارسة العمل الاكاديمي) .
ومن هنا نوصي زملاءنا التدريسين بالقيام على تعزيز قيم الانتماء والمواطنة الصالحة والعدالة والسلوك القويم ومكافحة الفساد لتخريج اجيال مسلحة بالعلم والفضيلة واليوم نحن بأمس الحاجة الى التدريسي القدوة الذي ينأى بنفسه من كل مامن شأنه ان يزعزع الثقة فيه وان يظل النموذج والمثل الاعلى في نظر طلبته وبهذا ستعود الجامعات منارات علم ومعرفة، وللانصاف لا شك ان هناك نسبة كبيرة من التدريسيين الذين يؤدون رسالتهم على اكمل وجه وهم يحضون بالاحترام والتقدير من قبل زملائهم وادارات مؤسساتهم والمجتمع وسيبقى سلوكهم واثرهم العلمي والثقافي خالد مع بقاء اسم العراق ومؤسساته الاكاديمية العلمية الرصينة والتي حفرت اسماؤها في تأريخه وخلوده.
مقالات اخرى للكاتب