لا ادري متى أتخلص من مشهد أراه يومياً عند ذهابي إلى عملي أو عودتي منه، وأنا أشاهد شباباً بعمر الورد، وهم يحملون علب الأكلينكس أو قناني المياه المعدنية ليبيعوها على أصحاب السيارات والراكبين المارين في تقاطعات المرور .
أمر اشعر معه كل يوم بالحزن والكدر ويبدو أنني لن أتخلص من هذا المشهد إلا إذا جلست في بيتي وقاطعت الخروج، لكن الأمر لا ينتهي بمقاطعتي أو عدم رؤيتي هذا المشهد المؤلم لأنه صار يطاردني حتى في مشاهداتي لقنوات (الستالايت)، فهم يظهرون كخلفية لكل مراسل يقدم تقريره عن بغداد، لا ادري متى أنتهي من مشاهدة ألم الجنوب الذي صار وكأنه يدفع ضريبة غناه بفقر أبنائه!
الخسارات متلاحقة
في فندق مخبوء تحت زقاق معدم حتى من التهوية، يعيش هؤلاء ليلهم، يتسامرون ويضحكون ويبكون في أحيان كثيرة لواقعهم، كل غرفة من هذا الفندق الآيل للسقوط ينام أكثر من خمسة أفراد، ويدفع كل واحد منهم ألفي دينار لصاحبه لكي يصحو صباحا، شاكرين الله على بقائهم في هذه الحياة، ليتقاسموا ما ورد إليهم من بضاعة تاجر يعطيهم أجرهم على القطعة.
حسين عبد الله قادم من مدينة العمارة يروي حكايته وكأنه يريد أن يبوح بكل أسرار الدنيا حيث يقول : يئست من وجود عمل في مدينتي المكتظة بآبار النفط الأسود والحقول العملاقة، وحاولت جاهدا ان أجد عملا أعيل به زوجتي وأهلي، بعدما خسرنا كل أراضينا الزراعية، نتيجة غياب مياه الري، فمنذ سبع سنوات والحكومة تعدنا بان المياه ستأتي ولكن لا شيء كلها وعود. في فترة النظام السابق وبعد تجفيف الأهوار ذهبنا باتجاه المدن التي فيها بيوت المسؤولين، وكنا نعمل في مزارعهم وكأنها عودة إلى أيام الإقطاع الأسود، كانوا يعطوننا مبالغ زهيدة وكنا نقبل بكل ذلك لعدم وجود عمل بديل.
صاحب الفندق حسين عواد يقول بأنه يستقبل في فندقه الكثير من أبناء تلك المناطق، وذلك لان فندقه رخيص، وفيه بعض الخدمات، ويقول بأنه يشعر بالحزن على حالهم، فهؤلاء لا يستحقون كل هذا الوضع، وهم أبناء مدن النفط، حرام أن يتمتع الآخرون بنعم محافظاتهم الغنية دون أن يصيبهم شيء من هذه النعمة، أما عن بعض الحالات التي أثرت فيه، فقال كثيرا ما لا يحصل هؤلاء على فرص عمل، وفي أحيان كثيرة تترتب عليهم أجور الفندق لأسابيع، وبعضهم من حملة الشهادات، واحزن حينما أرى الحيرة والقلق في عيونهم، ولهذا فأنا أتنازل عن أجرة بعض الأيام لمن اشعر بأن حالته صعبة جدا.
مدن الخير تئن من الفقر!!
البصرة وذي قار وميسان هذه المدن كانت مصدراً للزراعة والنفط والصناعة والثروة الحيوانية بمختلف أنواعها وصولاً للطيور المهاجرة ولكن ميسان أدرجت من ضمن المدن الأكثر حرماناً في العراق، حيث أيديها العاملة معطلة لتوقف الصناعة والزراعة الأكثر أهمية، كون أراضيها إما تعيش الجفاف أو لا تزال تحت رحمة حقول الألغام، ووجود ما يزيد على خمسة ملايين لغم ومقذوف، وما يرافق ذلك من إشعاعات التي تسبب اخطر الأمراض، وقد مات الكثير بسبب تلك الأمراض، وكذلك نتيجة الفقر واختفاء وسائل العيش حيث لا تزال خدمتها متردية ومدارسها من القصب والطين ولا تملك المستشفيات التي تكفي للأمراض المنتشرة، فانعدام وسائل العيش أجبرت الكثير على الهجرة والعمل في أعمال أخرى في مدن أخرى لا تتناسب مع حجم التضحيات وكرامة أهالي تلك المناطق لتدفعهم للعمل حمّالين في الأسواق البغدادية.
محمد عبد الزهرة جاء من ميسان محملا بثقل السنين الغابرة وسياط الجمهوريات السابقة، وجد نفسه بعد ان اخذ منه الكبر مأخذا بعيدا عن التعيين وانه لم يعد يجدي نفعا لخدمة وطنه فذهب باتجاه (الشورجة) الكبيرة الغنية حيث يجر عربته الطويلة يحمل (كارتون) البضاعة يقول: اعمل منذ سبع سنوات واذهب إلى محافظتي حسب الظروف والعطل ، هنا احصل على اجري من تحميل هذه البضاعة والتي يتم حسابها لنا على أساس القطعة، فكل قطعة بـ500 دينار، ويتم جمع المبلغ مع جمع عدد الكارتون. ويؤكد محمد ان محافظته التي يسكنها هو وأهله منذ مئات السنين لم يعد يشعر بها محافظته لأنها برأيه أعطت خيرها لغير أبنائها، فشباب المدينة اغلبهم جاءوا إلى بغداد ليعمل حمالا او يبيع الماء المقطر تحت أشعة الشمس اللاهبة ويسكن اغلبهم في فنادق من الدرجة الخامسة بسبب رخص أجور الليلة الواحدة، وودعنا محمد بعدما قال: عملنا في زمن صدام مزارعين لدى رجال النظام السابق واليوم نعمل حمالين لأصحاب الملايين لم يتغير شيء.
وأكد عباس عبد الله مهودر الذي يعمل هو الآخر حمالاً في الشورجة وهو من الناصرية: نحن هنا بسبب عدم وجود فرصة في محافظاتنا الجنوبية حيث يعيش غالبية الشباب تحت ظروف البطالة والتي ساهمت في ازدياد أعداد الحمالين في الأسواق المعروفة كالشورجة وجميلة والسنك، فعند ذهابي إلى البيت في إجازة أجد أن بعض أصدقائنا وأقربائنا قد رغبوا بالعمل معي في بغداد في هذا المجال نتيجة للظروف الصعبة التي يعيشونها مع عوائلهم وعدم الحصول على فرصة عمل في محافظتهم، فنقوم بجلبهم معنا إلى العمل والرزق على الله سبحانه وتعالى حتى صار عددنا أكثر من المتبضعين عندما نبدأ عملنا صباحاً في نقل البضائع، أما مشكلة السكن والطعام فهي مشكلة لا حلول لها، وتأخذ الكثير من النقود التي نحصل عليها من التحميل تحت ظروف الحر والعطش ونضطر الى السكن مجموعات أو تناول الغذاء مشاركة.
مقاهٍ لتشغيل العاطلين
اضطر العديد من الشباب، بسطاء الثقافة والتعليم، ومن لديهم مؤهل أكاديمي، ممن تقاسمون ظروف الحاجة والعوز في زمن غلاء المعيشة، وتنوع متطلبات الحياة للنزول إلى سوق العمل، ومزاولة مهن صعبة وقاسية، عسى أن تدر عليهم حفنة دنانير، تسد الرمق، وتنتشلهم من حالة الضياع والحرمان، وتخلصهم من كابوس البطالة.
وقال الشاب علي صلاح، طالب في المرحلة الأولى، كلية الإعلام: "قدمت من الناصرية بحثا عن عمل بأجور مجزية بعد أن أجلت دراستي بسبب ضائقة مالية أمرّ بها مع عائلتي ولم أجد من سبيل أمامي سوى بغداد ومقاهي التشغيل التي تعمل كوسيط يقربنا من مصادر الرزق في المطاعم والفنادق "، مضيفا :"أرباب العمل في تلك الأماكن تستغل حاجة الشباب للعمل وتزجهم في أعمال قاسية ومنهكة مقابل أجور زهيدة غير مجزية وهذا نوع من الابتزاز لا بد وان تتنبه له الجهات المعنية ونقابة العمال بتشريعات وتعليمات وقرارات تحمي حقوق أولئك الشباب من الانتهاك".
ويبدو أن أبناء محافظات الوسط والجنوب من ابرز رواد مقاهي التشغيل في بغداد، وهم يقصدون العاصمة بالمئات يوميا، بحثا عن فرص عمل لا تخلو من المشقة والتعب والمنغصات، بعد أن انقطعت بهم سبل العيش في مناطقهم التي تشكو كسادا اقتصادياً، وقال الشاب عمران طلال من محافظة البصرة: "أكملت دراستي في معهد التكنولوجيا وحصلت على شهادة أكاديمية في الحاسوب إلا أني عجزت عن تحصيل فرصة عمل حكومية وهاأنا ذا أمارس مهنة غسل الصحون منذ سنوات في مطاعم بغداد التي تقلبتُ بين اغلب مطابخها بفعل سوء المعاملة وقلة الأجور"، مضيفا أن العديد من شباب المحافظات يواجهون في بغداد ظروفا قاسية وهم يقضون الأيام والشهور بدون عمل مما يضطرهم الى العودة لديارهم بائسين خائبين، وهناك منهم من سلك طريق الانحراف بسبب الجوع والحرمان.
الاختصاصية في مجال الشخصية والصحة النفسية نهى الدرويش، بينت الآثار النفسية التي يمكن أن تنعكس على أصحاب هذه المهنة. وقالت الدرويش: "إذا كان العمل الجسدي دون مستوى المهارات العقلية، فحتما سيشعر الشخص بالغضب مقابل اليأس.. أو الرفض للواقع مقابل الانحراف، أو تحويل الظلم عكسيا في أحلام اليقظة وعند تغيير الأوضاع".
وأشارت الدرويش إلى أن هذه العوامل تنشئ أحيانا شخصية انتهازية لدى العديد من أفراد المجتمع، فضلا عن الخوف من المستقبل.
وزارات ومنظمات مجتمع مدني تتفرج
يبدو أن حال الوزارات عندنا ومنظمات المجتمع المدني غير آبه بما يجري في الشارع وحال المواطن المسكين، فصارت كل وزارة تلقي اللوم على وزارة أخرى، وصار كل وزير وكأنه (دون كيشوت) يصارع الظلم أينما وجد فلا وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تعترف بعجزها عن إنهاء حالة العوز الاجتماعي الذي تعانيه اغلب العوائل العراقية ولا هي قادرة على القيام بمبادرة لانتشال المشمولين بالرعاية الاجتماعية من واقع الرواتب الرمزية التي يتقاضونها شهريا (50 ألف دينار) التي تذكرنا براتب المتقاعد في زمن النظام المباد! كما أن منظمات المجتمع المدني جلّ همها هو الحصول على المنح والتبرعات باسم ومعاناة هؤلاء الذين صاروا بضاعة رائجة يدلل بها الجميع عنوانا لوطنيتهم وشهامتهم، التسوّل يتجول بشوارع بغداد بوجوه عدة وأساليب شتى دون أن نجد دائرة اجتماعية استطاعت الحد من هذه الظاهرة أو معالجتها علميا، الشباب العاطل يمرغ وجهه كل يوم على أرصفة العوز والحاجة وهم في الغالبية من خريجي الكليات والمعاهد دون أن تصل لهم فرصة عمل أو حتى تنظيم دورات خبرة لغير المتعلمين لزجهم في الكثير من الأعمال، إلا أن الحق يقال بان السادة المسؤولين على الفضائيات يشهرون سيوفهم ويستعرضون بطولاتهم في القضاء على البطالة والتسول وكل مظاهر الذل التي يعانيها العراقي في وطن النفط والذهب.
مخطط إقليمي لصيد العاطلين !!!
على الجانب الآخر يجد بعض البرلمانيين أن هؤلاء الشباب قنابل موقوتة ويتم التحذير من وقوعهم صيدا سهلا للحركات الإرهابية واستغلالهم لأعمال إرهابية، ولم تطرح حلولا لمشكلة هؤلاء العاطلين، ولكن تمت الإشارة إلى الأخطار التي من الممكن أن يتسببوا بها، فقد حذرت النائبة عن (كتلة الفضيلة النيابية) سوزان السعد، من مخطط إقليمي لاستغلال الشباب العاطلين عن العمل لتشكيل مجاميع مسلحة تثير الشك والريبة لتحقيق أهداف معينة في العراق .
وقالت: هناك مخطط إقليمي من بعض الدول الإقليمية لزعزعة امن العراق، ناتج عن عدم ارتياحها للتطور الحاصل فيه، وخاصة بعد أن مارس الديمقراطية كأول دولة عربية نهضت بعد مرور سنين طوال من القمع.
وأكدت السعد : أن المرحلة الحالية تفرض على الجهات المختصة تشديد إجراءاتها التفتيشية وزيادة نشر السيطرات الثابتة على الطرق الخارجية، فضلا عن اعتماد أسلوب نصب السيطرات المفاجئة على تلك الطرق في أوقات غير معلومة كي تتمكن من مباغتة تجار الأسلحة ومعرفة المصدر الممول لهم .
وأضافت السعد : برغم محاولات العراق الحثيثة في فتح صفحة جديدة مع جميع الدول وخاصة المجاورة منها، لكن بعضها يدفع باتجاه الإبقاء على التوتر في العلاقات من خلال الاستمرار بالتجاوزات سواء على النفط أو الحدود أو غير ذلك من دون أن تأبه لأي شيء.
حقول عملاقة وفقر مدقع
هنالك أكثر من حقل عملاق في البصرة منها حقل مجنون الذي يضاهي حقل الغوار في السعودية وحقل عكاس في المنطقة الغربية. واللافت حول حقول النفط في البصرة ، كونها تعد أبرز الحقول العراقية العملاقة التي تضم احتياطيات مكتشفة ، وهي حقل غرب القرنة وحقل جزر مجنون وحقل الرميلة ، ومن أصل ستة حقول عملاقة موجودة في العراق أربعة منها في البصرة .
تستحوذ محافظة البصرة على أكبر ثروة نفطية في العراق ، إذ تشير الإحصائيات إلى أنها تملك 15 حقلاً منها 12 منتجة، وتحتوي الصخور في هذه الحقول احتياطياً نفطياً يزيد على 67.8 مليار برميل مشكلاً نحو 59% من إجمالي الاحتياطي النفطي العراقي . يمثل الاحتياطي النفطي للمحافظات الجنوبية ( البصرة وميسان وذي قار) قرابة 81.6 مليار برميل اي %71 من إجمالي الاحتياطي في العراق . إن ذلك يعني أن الجزء الأكبر من الاحتياطي النفطي يتركز في الجنوب وخصوصاً محافظة البصرة،
وهكذا في زبير النفط البحر المملوء ذهبا وآبار ميسان العملاقة التي لا تنضب، يتلوى الناس من شدة البرد في الشتاء والحر في الصيف وليقف الباعة على الأرصفة، وبين تقاطعات الطرق ينشرون بضاعتهم البسيطة موز وأوراق التنظيف(الأكلينكس) فيما تمر بين الحين والآخر مونيكات مظللة تنعق بالأصوات المرعبة ليمر نائب المحافظ (بعثي قديم) أو عضو مجلس ( فاسد ومرتشٍ) ويبقى الآخرون تحت خط الفقر!