هناك مسألة شرعية سمعت بها في زمن الثمانينات(أيام طفولتي)!!!
والمسألة ترتبط بالطعام الذي كان يقدم للجنود(أيام حرب صدام مع إيران) حيث كان يُقدّم لهم وجبات طعام تحتوي على اللحوم المستوردة من بلادٍ غير مسلمة,,وكان بعض الجنود يسأل عن تكليفهم وهم يعلمون سلفاً أقصد بعض الجنود أن هذه اللحوم غير جائزة الأكل!!!
وقد تفاجئ هؤلاء الجنود (الملتزم منهم وغير الملتزم) ما نُقل عن المحقق الخوئي(قدس سره) أنه أفتى بحرمة أكل اللحم وجواز شرب المرق...!!!
وفي تلك الفترة كان الكثير من عوام الناس يستهزئون أو يستغربون هذه الفتوى أو يُنكرون ويكذّبون صدور هذه الفتوى عن المحقق الخوئي(قدس سره)!!!!
وحتى صديقي الذي نقل لي هذه الحادثة عن أبيه فقد ذكر لي إشكال أبيه على هذه الفتوى!!!
حاصل الإشكال هو: كيف يجوز شرب المرق دون أكل اللحم أليس المرق قد تنجس باللحم؟؟؟...
وقد تجددت هذه القصة مرة أخرى ولكن هذه المرة عن طريق السيد القائد مقتدى(دام عزه) عندما أجاب عن سؤال بعض المعتقلين لدى قوات الإحتلال الأمريكي حيث كان الطعام الذي يُقدَّم لهم يحتوي على لحومٍ مستوردةٍ من بلادٍ غير مسلمة فكان جواب السيد مقتدى الصدر(دام عزه) أيضاً بتجنب اللحم دون المرق...
طبعاً القصة سوف لن تنتهي فالناس أيضا بعضهم مستغرب أو منكر...!!!
والشيء الطريف إنني عندما شرحتُ سر هذه الفتوى لأحد طلابي ضحك وقال لي: (سالبة بإنتفاء الموضوع)!!!!!.
فقلت له لماذا؟ ما دخل هذه العبارة المنطقية بموضوعنا؟
فقال إنني كثيراً ما أتحدثُ مع بعض طلبة العلوم الدينية ولم أسمع منهم سوى هذه العبارة(سالبة بإنتفاء الموضوع) ولم أسمع منهم غيرها مع إن مسألة جواز المرق دون اللحم مسألة مهمة أيضاً لأن فيها قاعدة أصولية إعتمد الفقهاء عليها ولكنني لم أسمع منهم أنهم يرددوها بالرغم من كثرة تطبيقاتها!!!
ويقصد بالقاعدة ما أنا ذكرته له بخصوص هذه المسألة...
والقاعدة هي((الأصل العملي حجة في المثبت دون لوازمه)).
أو ((لوازم الأصل العملي ليست حجة)).
ومقصود كلام أحد طلابي هو إننا لو سمعنا جواباً لتعليل جواز المرق دون اللحم من قبل بعض طلبة العلم كان خيراً لنا ولهم بدل أن نسمع منهم عبارة(سالبة بإنتفاء الموضوع) في كل زمان ومكان!!!...
لأن السائل إذا سمع هذا الجواب يُدرك أن المسألة أصعب من ما يتصور!!...
إن العوام ليسوا على درجةٍ واحدةٍ من الإدراكِ والفهمِ والثقافةِ وهذا الأمر واضحٌ
وحسب تجربتي المتواضعة أن التفهيمَ ممكنٌ وليس مستحيلاً ما دام الإنسان له مستوى من الفهم والإدراك مهما كان متواضعاً أو متدنياً فضلاً عن إستعداده وقابليته لكسب المعرفة وتحصيل العلوم!!!!
ويؤيِّد هذا الكلام ما قاله الشهيد محمد الصدر(قدس سره) في كتاب فقه الأخلاق (إن الذنب ذنب الإسلوب وليس ذنب الفكرة)إنتهى
والآن أريد أن أسلّط الضوء على هذه المسألة متوخيّاً الفائدة في ذلك قدر الإمكان..
ولابد من مقدمةٍ بسيطةٍ قبل الخوض في صلب الموضوع..
إن المجتهد الفقيه يعتمدُ على نوعين من الأدلة:
النوع الأول: الإدلة المحرزة وهي أدلة يحرز بها المجتهد الفقيه الواقع ويكشف من خلالها عن نوع الحكم الشرعي..
والأدلة المحرزة حجة في المثبتات واللوازم (وسوف يأتي توضيح معنى المثبت واللازم).والمراد من الأدلة المحرزة ما يشمل الدليل القطعي والإمارة الشرعية..
والأدلة المحرزة تشمل:
1-الكتاب(آياتُ الأحكام).
2-السُنة(قول المعصوم وفعله وتقريره).
3-سيرة المتشرعة.
4-سيرة العقلاء.
5-إرتكاز المتشرعة.
6-الإجماع.
7-العقل.
إن الأدلة المحرزة يعتمد عليها المجتهد الفقيه بصورة أساسية ولكن وفق شروطٍ معينةٍ ينبغي أن تتوفر في هذه الأدلة..
الثاني: الأصول العملية وهي نوع آخر من الأدلة يعتمد عليها الفقيه في حال عدم توفر الأدلة المحرزة المعتبرة..
فالأصول العملية أدلة بديلة عن الأدلة المحرزة وبطبيعة الحال إن الأصول العملية لا تحرز الواقع ولا تكشف عن نوع الحكم الشرعي بل هي تحدد الموقف العملي والوظيفة العملية للمكلَّف في حال عدم إحراز الواقع ولذلك فإن موضوع الأصول العملية هو الشك وبطبيعة الحال فإن الشك ليس إحرازاً...
والأصول العملية على أنواع:
1-البراءة.
2-الإستصحاب.
3-الإحتياط.
4-التخيير.
إن الأصول العملية حجة في مثبتاتها دون لوازمها..
وقد إختلف علماء الأصول في حجية لوازم الأصل العملي فقد ذهب بعض القدماء من علماء الأصول بالقول بحجية لوازم الأصل العملي...
أما الشهرة العظيمة لعلماء أصول الفقه فهي القول بعدم حجية لوازم الأصل العملي!!!..
وقد يتسائل القارئ عن المثبت واللازم فيكون التوضيح عن طريق هذا المثال.
فلنضرب مثالاً عن النار فإن من لوازمها الحرارة فأنت عندما تعلم بوجود النار فإن المثبت لديك هو النار نفسها وحيث أن الحرارة من لوازمها فيكون علمك بالحرارة أيضاً عن طريق المثبت نفسه أي النار في هذا المثال...
ولنطبّق هذا الكلام على الحكم الشرعي فإن الفقيه يعتمدُ على الدليل المحرز في إثبات الحكم الشرعي.....
وقد يكون للحكم الشرعي لوازم فيكون الدليل المحرز أيضا نافعا في إثبات اللوازم.. ولنطبّق هذه المسألة على موضوع اللحم والمرق...إن مسالة جواز أكل اللحم متوقفة على إحراز التذكية....
والتذكية هي حكم شرعي وضعي وطهارة اللحم المذكى هي من لوازم هذا الحكم يعني أننا نحكم بطهارة اللحم بسبب التذكية فالطهارة تلازم التذكية..
إن إحراز التذكية يكون عن طريق أحد طرق الإحراز التي حددتها الشريعة وهي تمثل أدلة شرعية لإثبات الشبهة الموضوعية....
فقد يكون الشخص عالماً بالتذكية كأن يكون هو الذي ذبح أو نحرأو شاهد الذبح أو حصل لديه تواتر بالتذكية....
وقد تثبت التذكية بأحد الإمارات الشرعية كقيام البينة وهي شهادة عادلين بالتذكية أو بخبر العادل الواحد أو بخبرالثقة مع حصول الإطمئنان بقولهما أو بقاعدة سوق المسلمين وهي أيضاً إمارة شرعية فإن كل هذه الأدلة والإمارات تمثل طرقاً شرعية لإحراز التذكية فهي حجة في المثبت ولوازمه والمثبت في هذا الموضوع هو التذكية واللازم هو طهارة اللحم!!!!
ولو كانت نفس هذه الأدلة والإمارات تثبت عدم التذكية فإنها حجة في المثبت واللازم أيضاً فالمثبت في موضوعنا هو عدم التذكية واللازم هو نجاسة اللحم!!!
وفي حال عدم توفر الأدلة والإمارات التي تثبت التذكية أوعدمها وهذا يعني الشك في التذكية وعدمها بالتالي يتم اللجوء الى الأصول العملية وتحديداً الإستصحاب..
فإن مقتضى الإستصحاب في هذه المسألة هو البناء على عدم التذكية...
والإستصحاب أصل عملي حجة في المثبت (عدم التذكية) دون اللازم (وهي نجاسة اللحم).....
وهذه مسألة تنطبق إنطباقاً تاماً على مسألة اللحوم المستوردة من الدول غير المسلمة لأنها لحوم مشكوكة التذكية لعدم وجود الدليل المحرز الذي يثبت التذكية أو يثبت عدمها..
وفي حال الشك يتم اللجوء للأصول العملية لتحديد الموقف العملي مع بقاء الواقع مجهولاً والأصل العملي هنا هو إستصحاب عدم التذكية....
يعني إن مقتضى هذا الأصل العملي هو البناء ظاهراً على عدم التذكية ولكن لا يحكم بنجاسة هذا اللحم!!!!
والسر في ذلك أن عدم التذكية لم يتم إحرازها بدليلٍ محرز وإنما كان بمقتضى الأصل العملي الذي يكون الإقتصار فيه في الحجية على المثبت دون اللازم.
فالمثبت هنا(عدم التذكية) وهو حجة واللازم هو(نجاسة اللحم) وهو غير حجة وعلى هذا الأساس والمبنى أفتى المحقق الخوئي(قدس سره) والسيد محمد الصدر(قدس سره) بتجنب اللحم دون المرق!!!
لأن تنجس المرق بهذا اللحم ليس حجة لأن البناء على عدم التذكية كان بموجب الأصل العملي وليس بموجب الدليل والإمارة....
فيكون الجواب على سؤال المستغرب هو:
إن الاصل العملي حجة في المثبت دون لوازمه بل إن هذا الجواب يصلح أن يكون جواباً على الكثير من المسائل الفقهية التي يكون دليلها الأصل العملي..كما هو الحال في الحكم بطهارة الجلود الطبيعية المستوردة من البلاد غير المسلمة....
إن هذه المسالة يصطلح عليها في علم الأصول ب(نظرية الأصل المُثبت) ويقصدون بالأصل المثبت الأصل العملي الذي يكون حجة في مثبتاته ولوازمه..
إن مشهور الأصوليين لا يقولون بالأصل المُثبت نعم هناك بعض المتقدمين يقولون بالأصل المثبت وبناءاً على هذا القول فإن التجنب يشمل اللحم والمرقِ معاً..
ولكن لا يوجد من المتأخرين من يقول بالأصل المثبت فيكون التجنب مقتصراً على اللحم دون المرق وإن كان مقتضى الإحتياط الإستحبابي تجنب المرقِ أيضاً....
بقي الإشارة الى شيء مهم جداً وهو أن الفتوى بتجنب أكل اللحم سببه البناء على عدم التذكية أي نفس المثبت لأن طهارة اللحم ليست سبباً لجواز الأكل وإنما جواز أكل اللحم يكون بسبب إحرازالتذكية...
مقالات اخرى للكاتب