مطلع الشهر الماضي دهمت الشرطة التركية أحد أحياء مدينة غازي عنتاب، حيث اعتقلت ستة أشخاص بتهمة الترويج لعملة مزيفة. وعثرت الشرطة في حوزة المعتقلين على صناديق خشبية عدة ملآنة بعملة معدنية مسكوكة باسم «خليفة الدولة الإسلامية». وكانت العملات تتألف من الدينار الذهبي والدرهم الفضي والفلوس النحاسية.
ويرى المراقبون أن غاية تنظيم «داعش» من وراء سك عملة خاصة يعود تاريخها إلى العصر الأموي، هو فرض معاييره القانونية الدولية داخل تخوم بلاده، تماماً مثلما تفعل الولايات المتحدة عبر الدولار... أو مثلما تفعل بريطانيا عبر الجنيه الاسترليني.
وكما نشأ تنظيم «داعش» وتمدد بفعل سياسة القوة والتخويف، كذلك مارس الأسبوع الماضي هذه السياسة بكثير من الشراسة والضراوة في العاصمة الفرنسية باريس. وكانت حصيلة تلك المجزرة 130 قتيلاً وحوالي 350 جريحاً.
والهدف - كما فسره وزير الدفاع الفرنسي فرانسوا جان ايف لودريان - هو الانتقام من سياسة الرئيس فرنسوا هولاند الذي أمر بقصف قافلة تنقل 139 شاحنة نفط، تمثل مصدر التمويل الأساس لتنظيم «الدولة الإسلامية».
والثابت أن وصول حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديغول» إلى المنطقة زاد من مخاوف تنظيم «داعش» الذي اعتبر أن سياسة باريس حياله لا تقل خطراً عن سياسة موسكو. خصوصاً بعد استهداف معسكرات التدريب، وحقول النفط المنتجة. لذلك قررت قيادة التنظيم تسديد ضربة موجعة إلى باريس بغرض إرباك الحكومة الفرنسية، ومنعها من استكمال خطتها وزيادة قدراتها العسكرية في سورية والعراق.
في مطلق الأحوال، فإن الضربات الموجعة التي تلقاها «داعش» خلال هذا الشهر كانت من النوع المؤثر على وجوده واستمراره معاً. ذلك أن الانتصار الذي حققته البيشمركية من جراء استعادتها إقليم سنجار (800 كلم مربع) أفقد التنظيم موقعاً استراتيجياً ورمزياً قلَّ نظيره، خصوصاً أن هذا الإقليم الذي وعده مسعود بارزاني بالتحول إلى محافظة، كان يمثل الرباط الحيوي بين الموصل والمعاقل الأخرى في العراق وسورية. كما يمثل بالتالي الملجأ الأخير للايزيديين الذين اضطهدهم «الداعشيون»، وعاملوا نساءهم كسبايا.
في الوقت ذاته، خسر التنظيم أسطورته الإرهابية التي تمثلت بالذبـّاح محمد اموزاي الذي قُتِل في غارة نفذتها طائرة من دون طيار استهدفته في الرقة السورية. واشتهر الملقب بـ «الجهادي جون» في التسجيلات المصورة وهو يرتدي ملابس سوداء كلون علم «داعش»، ويغطي رأسه كاملاً عدا عينيه. وكثيراً ما ظهر على شاشات التلفزيون وهو يذبح رهائنه بسكين طويلة مصنوعة كالمنشار.
أول مرة أثار هذا الشاب اهتمام الأجهزة الأمنية كان يوم التحق بحركة «الشباب المجاهدين» في الصومال في العام 2009. ثم عاد إلى الكويت قبل انتقاله إلى بريطانيا حيث خضع للمراقبة بسبب علاقاته بمتطرفين ومشبوهين.
وعن توقيت اغتياله، كتبت صحيفة «فاينانشال تايمز» تقول إن الرئيس باراك أوباما حرص على القيام بعمل مثير قبل مؤتمر فيينا. وغايته من وراء اغتيال أشهر ذبـّاح لدى «داعش» إقناع الرئيس فلاديمير بوتين بأن الولايات المتحدة تشاركه عملياً في محاربة إرهاب التنظيم. أي أن هذه الحادثة كانت مجرد عملية «دعاية» سافرة تغطي بها واشنطن عجزها عن محاربة «داعش».
حقيقة الأمر أن دور الولايات المتحدة ظل غامضاً وملتبساً إلى حين انعقاد قمة «مجموعة العشرين» في مدينة أنطاليا التركية. والسبب، بحسب تعبير محللين، هو اعتماد الرئيس أوباما سياسة خارجية زئبقية تتحاشى خوض الحروب في شكل مباشر، وإنما بواسطة قوى محلية تقوم بلاده بتسليحها وتدريب عناصرها.
وبعكس ما تفعله روسيا، فإن الغارات الأميركية تجنبت دائماً إلحاق الأذى باقتصاد التنظيم. والدليل على ذلك أن الغارات التي شنتها واشنطن خلال الشهور التسعة الماضية، والتي زاد عددها على 4050 غارة، لم تعرقل نشاط «داعش» ولم تؤثر في تجارته النفطية.
لماذا؟ لأن فكرة إنشاء تنظيم «داعش» هي في الأساس فكرة أميركية تحققت تدريجياً بعدما دعمتها تركيا ودول عربية أخرى بالمال والسلاح. أي الدول التي ترى مصلحتها في وجود جسم سياسي سُنّي يوازي الوجود السياسي الشيعي في عراق نوري المالكي. ولم يكن هدف إدارة الرئيس أوباما الاكتفاء بإحياء حروب النقائض، وإنما تعدتها بغرض احتواء زخم «الربيع العربي» فوق رقعة شطرت جغرافية سورية والعراق. ومن المؤكد أن سرعة إسقاط الأنظمة القائمة في تونس ومصر وليبيا أعطت واشنطن سبباً إضافياً لخلق تنظيم شرس قادر على اجتذاب الطبقة الراديكالية في العالمين العربي والإسلامي.
وبين أهم الأهداف التي توقعت إدارة أوباما تحقيقها أيضاً إبعاد «الدولة» الجديدة من الدول الأوروبية الغربية بحيث تبقى نزاعاتها محصورة في منطقة الشرق الأوسط.
وبسبب التدخل الروسي المباشر في عملية تقويض النظام «الداعشي»، زائد تدخل دول غربية بواسطة الطيران الحربي، أيقن أبو بكر البغدادي بأن ساعة تصفية دولته قد آنت. لذلك استخدم كل عناصره المستنفرة في مواقع مختلفة من أجل إسقاط الطائرة الروسية، وإحراج «حزب الله» في منطقته (برج البراجنة)، والاعتداء على باريس بطريقة جعلت فرنسا تطلب مساعدة عسكرية من دول الاتحاد الأوروبي.
تقول الصحف الأميركية إن الاعتداء على فرنسا بهذا الحجم المخيف شكـّل ضربة قاتلة لتنظيم «داعش». والسبب أن القوى التي ساندته وأيدت وجوده اضطرت إلى التخلي عنه بعدما تحول إلى دولة إرهاب عالمي تفوقت في شراستها على «القاعدة» وسواها من المنظمات المماثلة. والدليل أن تركيا التي أسهمت في بناء هذا التنظيم، اضطرت إلى إعلان تراجعها وشن حملات اعتقال استهدفت ناشطين من «داعش» في مختلف البلدان.
وفي وقت كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يهدد «داعش» بالانتقام المرير بسبب نسف الطائرة التي كانت تحمل على متنها 224 مسافراً، نشرت مجلة «دابق» الناطقة باسم التنظيم الرواية الكاملة عن عملية التفجير. وإلى جانب صورة القنبلة التي استخدمت لإسقاط الطائرة الروسية، تعمدت المجلة الغمز من قناة القوات المسلحة المصرية التي نفت في السابق القدرة على اختراق جدار الأمن في شرم الشيخ.
يقول مدير الأمن القومي الأميركي إن بلاده اتخذت الاحتياطات اللازمة لمنع تكرار عملية تدمير البرجين في أيلول (سبتمبر) 2001. وساعدها على ذلك فقدان التنظيمات الإرهابية بيئة حاضنة مثل أفغانستان. والمؤكد أن إنشاء دولة «داعش» في قلب سورية والعراق بدّل صورة «القاعدة» بسبب تغاضي المجتمع الدولي عن شبكة الإرهاب التي أقامها التنظيم في أماكن سيطرته وخارجها. ومن أبرز أذرعه الطويلة في مصر تنظيم «أنصار بيت المقدس» الذي نفذ سلسلة عمليات في صحراء سيناء وخارجها.
وفي هذا السياق، كتبت الصحف المعارضة في مصر عن الطريقة الغامضة التي استخدمت لإدخال القنبلة إلى المطار في شرم الشيخ. ثم تساءلت ما إذا كان بالمستطاع إدخال متفجرة إلى المكان الذي يعج بالفنادق، على اعتبار أن «داعش» هدد بحرمان مصر من 14 بليون دولار، مردود السياحة.
الصحف الفرنسية والبلجيكية ركزت هذا الأسبوع على إطلاق توقعات عدة تتناول الأماكن المرشحة لانتقام «داعش»، جاء في طليعتها إيران والولايات المتحدة. وقالت هذه الصحف إن التنظيم سدد الحساب مع الروس من خلال إسقاط طائرتهم فوق سيناء. كما وجه ضربة مؤلمة إلى «حزب الله» كونه يقوم بدور الحراسة للرئيس بشار الأسد. من هنا القول أن قاسم سليماني، قائد العمليات الخاصة في الحرس الثوري الإيراني، بدأ يستعد لمقاومة أي عمل تخريبي يفتعله «داعش» لإرباك إيران باعتبارها الراعي الأول لـ «حزب الله»، إضافة إلى كونها الحارس الأول والأخير لنظام الأسد.
منتصف هذا الأسبوع، عقد في إشبيلية مؤتمر لشرطة الانتربول جرت خلاله مراجعة مستفيضة للأعمال المخلة بالأمن الدولي. وفي نهاية المؤتمر أعلن الأمين العام للمنظمة يورغن ستوك وجود 25 ألف إرهابي في العالم، غالبيتهم في سورية والعراق وأفغانستان.
ومثل هذه التقديرات فتحت المجال لعرض مختلف العمليات النائمة التي ستقفز إلى حيز التنفيذ في حال قرر أبو بكر البغدادي ذلك، أو في حال قرر جهاز التحكم بهذه الآلة المعقدة نشر الذعر في كل مكان في العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة.
ويبدو أن البعد الجغرافي الذي تتحصن خلفه أميركا لم يمنع عنها تهديد صقور «داعش» الذين توعدوا إدارة أوباما باستعادة مأساة برجي نيويورك. والسبب أنهم مقتنعون بأن الغارات المكثفة التي قامت بها الطائرات الحربية الأميركية هي التي سهلت للبيشمركة استعادة إقليم سنجار. وبما أن هذا التدخل المؤثر يعطي الدليل القاطع على تحول الإدارة الأميركية من موقف المهادن إلى موقف المعارض، فإن التوقعات تشير إلى احتمال إحداث عملية تخريب تحرج الراعي الخفي باراك أوباما.
مكتب التحقيقات الفيديرالي «أف بي آي» مشغول في هذه الأيام بملاحقة شبكات الإنترنت، علّه يكتشف من خلالها بعض التوجيهات المتعلقة بأوامر القيادة المركزية. ويقول مكتب التحقيقات إنه يراقب باستمرار تحركات أكثر من ألف شاب أميركي يتهمهم بالتعاطف عقائدياً مع «داعش». كما يزعم بأن هؤلاء الشبان قد تأثروا بالرسائل التي تصلهم باستمرار من 250 مقاتل أميركي التحقوا بصفوف التنظيم. ويكفي أن يكون في الولايات المتحدة ألف إرهابي فقط، كي يتضاءل عدد المسافرين ويتراجع عدد رواد المسارح وصالات السينما ومواقع التسوق والزحام.
وقديماً، عرف القراء حكاية فرانكنشتاين الذي قتل صانعه. واليوم تتكرر هذه الحكاية مع «داعش»... الدولة التي خُلِقَت في سبعة أيام فقط!
مقالات اخرى للكاتب