إن ما يجري في العراق عموماً وفي محافظة الأنبار خصوصاً هذه الأيام يعد انعطافة نوعية جديدة بالغة الخطورة ذات بعد اقليمي و دولي يمهد لمشروع تفتيت الوطن بتصعيد المشاعر الطائفية وتعميق الانقسام والاحتراب الاجتماعي بين أبناء الشعب الواحد لاغراق الجميع في بحار من الدم لإدامة الاستعباد والتبعية والتخلف وهذا ما كررناه كثيراً ...
فالاستهداف القديم الجديد لوحدة العراق وشعبه أصبح اليوم على رأس أولويات معسكر العدو، ولكن عراق الأمس و اليوم رغم لهيب النار، ونار الدار هو في القلب وفي العقل ذلك لأنه شعباً وأرضاً وتأريخاً ومصيراً وحضارة ممتدة في الزمن، ولأنه هوية ومصيراً ومستقبلاً لا نستطيع أن نتركه هكذا يواجه الأخطار التي تتهدده، وإلا فما معنى الانتماء؟ وما معنى الوطنية؟ وما معنى - حب الوطن من الإيمان-؟ لذا فأن (الصمت) لم يعد ممكناً، ولا (التذاكي) الساذج، ولا الانشغال (بالمناكفة) حلاً، كما أن رفع الشعارات الصاروخية في زمن الشفافية لا يُعد سوى (إستحمارٍ)... في زمن تتهدد فيه المبادئ والثوابت والقيم على يدي المدّعين، قبل المخالفين، وفي زمن لازال الإرهاب (يتغول) ومساحة (الاحتراب) تتسع ودائرة (الموت) المجاني تبتلع المزيد من الأبرياء لازال بعض الساسة والكتل تتصرف بذاتية مفرطة وإنفعالية واغتراب، والغريب أن يجري كل ذلك بيد الأبناء يداً بيد مع الغرباء الأعداء، والأغرب أن تكون شعارات الوطنية والإسلامية هي معاول الهدم للوطن والإنسان ولتشويه صورة الإسلام، والأدهى بعد ذلك أن تتداعى جهات وشخصيات سياسية للتبرير و للتعجيز بـ(تذاكٍ) مخجل يلتقي بنزعة (الاستحمار) دون إدراك أو وعي بذلك، مما يبعث الشعور بالخطر المثير الذي يستدعي رفع الصوت عالياً لإنقاذ أنفسنا وإنقاذ عراقنا وشعبنا من الفتنة والتقسيم والاحتراب الذي سيطول مداه حتى يحرق الجميع بلا إستثناء...
إننا هنا لا ننكر تنامي وعي شعبي على نقيض دعوات الأقلمة الطائفية والعرقية الدافعة للتقسيم التي يعدها البعض حلاً للخلافات والتناحرات والمناكفات المستمرة، إن وعياً اجتماعياً يتنامى اليوم بعد أن انكشفت أجندات التقسيم في عموم المنطقة العربية بعد أن جرى احتواء الانتفاضات الشعبية التي جرت للخلاص من الاستبداد وطلباً للحرية والعدالة الاجتماعية والتي تحولت الى صراعات بينية فإذا كانت هناك ثنائيات: شيعة / سنة و عرب / كرد في العراق فقد استحدثوا ثنائيات متصارعة في مصر بين إسلاميين / وعلمانيين / وأقباط وفي ليبيا ثنائيات مناطقية بين طرابلس / وسبها / وسرت وغيرها... أما في سوريا فإن الانتفاضات الجماهيرية للاصلاح تحولت الى مآسٍ لا مثيل لها ركب موجتها التكفير والإرهاب الدولي، لذا فإن هذا الوعي المتنامي لحقائق الأحداث ومآلاتها هو بداية صحوة نأمل أن تتسع لتبعث شيئاً من التفاؤل و الأمل بالاصلاح، وبخاصة إنه يعكس موقفاً قد يراه البعض غريباً في زمن الرداءة، وانتكاسة العقلانية واندفاعة المشاعر الطائفية وإنتقال أساليب الإرهاب الى احتراب متسع كما في الفلوجة والرمادي، ولكن يجب الاعتراف هنا بأن مشروع التقسيم لازال قائماً وهو يتقدم بعُجالة ويَلقى ترحيباً من المغفلين والمأجورين، ويُراد (للأقلمة) أن تكون بداية له، ولابد من الاعتراف بأن هناك طبقة سياسية نَمت وهي تتسع لحمل أعباء هذا المشروع ولكن الإرادة الشعبية المناهضة هي كذلك تنمو وتتسع بسبب القلق أزاء التقسيم وإدارة اخراجه بمنهجية التدمير الدموي، هو قلق على الذات بالمعنى الشمولي و أن خطره سيلهب الجميع بالدمار والنار..
إن صرخة الألم المتعالية اليوم بسبب ما يحصل في الأنبار حيث تعبث (داعش) و أخواتها وزبانيتها بأمن أهلنا وتخريب بنيتها وتهجير وترويع أبنائها فضلا عن اشغال جيشنا ومقاتلته وهو الممثل الشرعي لهوية العراق و وحدته.
أن هذه الصرخة الشعبية وإن افتقدت المرجعية والمركزية العابرة للهويات الضيقة إلا أنها ستتعاظم كلما تصاعد الخطر وإتسع القلق.. وهنا نريد الإشارة الى أن توصيف ما يحصل بـ (الفقاعة) تفريط وتهوين، و أن توصيفه بـ (السيل الجارف) الذي سيغير كل شيء، إفراط وخيال بل (استحمار) والصحيح أنها (غيمة) تحجب الشمس الى حين وقد تنذر بخطر السيول ولكنها من طبائع وسنن الكون التي تستبطن الخير و السقاية والإرواء أُحسن التدبير وصحت المعالجة، إنها (غيمة) وليست (فقاعة) ولا (سيلاً) جارفاً...
لذا لابد أن نشير الى تحميل الكتل السياسية المسؤولية الأولى عما يتهدد عراقنا من كوارث وأخطار، ليس لأننا نحاكمها من منطلق التوصيف الخاطئ أو الإدارة التبسيطية أو الاستخفاف بالوقائع والمؤامرات ولا لتلك الفئة من الحالمين والأُجراء المنشغلين بمصالحهم الخاصة وإهمالهم لمطالب الشعب بالأمن والخدمات، ولكن أيضاً لأن بعض هذه الفئات غارقة بالحقد والجهل المركب في تعاملها مع الأحداث ومع شعبها وكأن أبناء هذا الشعب لا يفقهون شيئاً ولا يميزون بين الإدعاء والدعاء وبين الوطنية والخيانة وبين التذاكي والذكاء، وأيضاً لأنها كتلُ ترى بوضوح ما يتعرض له أبناء العراق للقتل المبرمج فيما أضحى أكثر أعضائها يتمتع بزيارات سياحية لبلدان فيها الماء والخضراء و..... تاركين ناخبيهم يسبحون في برك الدم.. و(يا عين ما تشوفي الذبح)...
فهل ندرك واجبنا اليوم في مواجهة الإرهاب وتجار السياسة وباعة الضمائر؟؟...
وهل ننتقل الى مستوى التعبير عن الوعي والقلق الى مستوى المبادرة والموقف العملي دون (تردد) أو (تذاكٍ) أو (استحمار)؟!... إنا وإياكم لمنتظرون.
مقالات اخرى للكاتب