في حوار صحفي، أجراه معنا الصديقان نبيل عودة وسيمون عيلوطي، ذكرنا عرضا أن محمود درويش، في رأينا، هو أبرز شعراء العربيّة في النصف الثاني من القرن العشرين. أحد القرّاء اعتبر ما ذكرناه في المقابلة "تعصّبا" مغرضا لدرويش. نشرنا ردّنا على الأستاذ المعلّق، على حدة، مفصّلا، فلا حاجة إلى تكراره هنا. على كلّ حال، في مقال سابق، قبل سنوات، ذكرنا بأسلوب علمي موضوعي، أنّ الدرويش "هو أكثر الشعراء العرب بعد الحرب العالميّة الثانية، شهرة وانتشارا" ، موردين عوامل ثلاثة ارتقت به إلى هذه المنزلة: موهبة شعريّة فذّة، اضطلاعه في شعره وحياته بتبعات "شاعر فلسطين" الأوّل، وأخيرا وهذا هو الأهمّ طبعا، أنّ درويش الشاعر "واصل خلال نصف قرن وأكثر كتابة الشعر دون انقطاع، وفي خطّ صاعد في مجمله. بل يمكن القول إنّه كرّس حياته، حقيقة لا مجازا، للقراءة المتواصلة ولكتابة الشعر".
واليوم، بعد رحيله عن هذا العالم، يمكننا أن نضيف دونما ريب أن درويش وهب الشعر حياته كلّها فعلا. حتّى ما كتبه في النثر، وليس ذاك بالقليل، كان مداره بشكل أو بآخر الشعر وتجربته الشعريّة أيضا. على كلّ حال، ما ذكرناه عن درويش عرضا، في تلك المقابلة الصحفيّة، سيردّده كثيرون من الأجيال اللاحقة بعدنا. نحن شعب دأبنا ابتذال القريب، وتمجيد البعيد والغريب !
في كتاب لدرويش، سمّاه "أثر الفراشة" (رياض الريّس، 2008)، قصيدة قصيرة تحمل اسم المجموعة أيضا (ص.131 – 132). القصيدة، وقد أرفقناها بهذه الخاطرة، من 6 "أبيات" فقط. مطلعها الذي يتكرّر خاتمة لها أيضا، من أربع تفعيلات من الكامل (متفاعلن)، والأبيات الأربعة الأخرى من الكامل كاملا (6 تفعيلات)، وإن ظهرت مكتوبة في غير الشكل التقليدي للشعر العربي . هذه القصيدة القصيرة قد يمرّ بها القارئ سريعا فيفوّت أبعادها الفكريّة العميقة. لكنّها يوم قرأناها أثارت فينا الفضول فعلا، فحاولنا سبر دلالتها البعيدة. ما دامت تحمل اسم المجموعة كلّها، قلنا في داخلنا، فلا بدّ لنا من البحث عن مراميها البعيدة: ما معنى "الموتو" المتكرّر في مطلعها وخاتمتها - "أثر الفراشة لا يزول"- وما دلالته البعيدة؟!
بعد البحث الجادّ في المراجع، العربيّة والأجنبيّة، وجدنا أنّ هذه القصيدة القصيرة تعكس في الواقع فلسفة قائمة بذاتها تسمّى في الإنجليزيّة نظريّة الكاؤوس - "الشُواش أو الهيولى... أو حالة الكون المختلطة قبل تكوّنه" بترجمة قاموس "المورد". وأثر الفراشة هو ترجمة موفّقة للمصطلح الإنجليزي بترفلاي إيفكت أيضا ! ترى نظريّة الكاؤوس المذكورة أنّ التغيّر الطفيف من شأنه، إذا صادف ظروفا مواتية، في نظام دينامي معيّن، أن يؤدّي إلى تغييرات كونيّة كبرى في المدى البعيد. مثال ذلك أنّ رفيف جناحي فراشة من شأنه في ظروف مواتية أن يتحوّل إلى إعصار هائل، إلى تورنادو!
هذا ما توصّلنا إليه قبل سنوات، عندما رغبنا في سبر غور المصطلح المذكور الذي اتّخذه محمود درويش عنوانا للقصيدة المذكورة، وللمجموعة الشعريّة كلّها!
وشاءت الظروف، قبل مدّة، أن أرافق الصديقين منى وإبراهيم عوّاد، العاملين في مجال التنمية البشريّة، إلى لقاء يتناول المجال ذاته. في طريقنا إلى قاعة المحاضرة، قرأت بالعبريّة إعلانا للقاء مجموعة أثر الفراشة، אפקט הפרפר بالعبريّة. قلت للصديقين منى وإبراهيم إنّ محمود درويش نظم النظريّة المذكورة في قصيدة قصيرة له باسم أثر الفراشة، في كتاب له يجمع الشعر والنثر، ويحمل الاسم نفسه !
فرح الصديقان غاية الفرح، إذ وجدا في نتاج الدرويش مقطوعة شعريّة موجزة، تفسّر بأسلوب شعري أخّاذ ما يدأبان على تفسيره لمريديهم بالشرح المستفيض والتمثيل. هذا ما جعلهما يتّخذان المقطوعة الشعريّة المذكورة موتو لكتابهما في هذا المجال. وهذا ما يجعلني أعيد نشر الأبيات المذكرة هنا، راجيا القرّاء النظر في المقطوعة المذكورة، من جديد، على ضوء ما ذكرناه في هذه الخاطرة:
نصّ قصيدة أثر الفراشة:
(مجموعة "أثر الفراشة، يوميّات"، بيروت، 2008، ص. 131 – 132. ).
أثرُ الفراشة لا يُرى
أثرُ الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أعلى
وإشراقٌ جميلُ
هو شامةٌ في الضوء تومئ،
حين يرشدنا إلى الكلماتِ
باطننا الدليلُ
هو مثل أُغنية تحاولُ
أن تقول، وتكتفي
بالإقتباس من الظلالِ
ولا تقولُ...
أثرُ الفراشة لا يُرى
أثرُ الفراشة لا يزولُ!
jubrans3@gmail.com
مقالات اخرى للكاتب