الأثر المترتب على تبليغ الرسالة الإلهية من قبل الأنبياء لا يخرج عن التسمية الوظيفية المتضمنة للإنذار والتبشير، أما ما يجانب هذا الاتجاه من حيث الموازنة الفعلية لشخص النبي فهو وإن كان في معزل عن الأحكام التشريعية إلا أنه لا يكون مذموماً إذا ما نظرنا إلى القياسات الطبيعية للنفس التي لم تنقاد إلى القوانين والنظم المفارقة للسمات البشرية، ومن هنا نرى أن التقديرات الشخصية للأنبياء لا يمكن أن تعزز التجاذبات الدفاعية عن المكلفين بالشرع الملقى على عاتقهم، أو ما ينسجم مع الاتجاهات العرفية التي تلقي بظلالها على مسيرتهم العامة، سواء كانت الاعتقادات السائدة لديهم ناتجة عن جهد النبي أو ملازمة للطبيعة الفطرية، وتعليلاً لهذا النهج نرى أن الصفات الإنسانية قد تتغلب على الأحكام التشريعية التي ألزم الله تعالى بها أنبيائه، وبالتالي يحتاج هذا المنحى إلى مقررات أخرى تساعد على إرجاع الأنبياء إلى الأحكام الإلهية التي تحدد العواطف الفطرية الظاهرة في سلوكهم، أما إذا ظهر ما يخالف ذلك فلا محيص من أن تظل الاعتقادات الراسخة في مخيلتهم حبيسة الخلجات النفسية التي تحيط بأفكارهم، وتأسيساً على ما سلف يمكن القول إن النظام الإلهي ما جاء إلا ليبعد الشبهات المثيرة عن القلوب الطاهرة ويركز على الأسس القانونية وإن كانت لا تتفق مع الفطرة السليمة التي يمتاز بها الأنبياء، ومن الأمثلة على ما نحن بصدده تلك الواقعة الشهيرة التي حصلت لقوم لوط والتي كان لها الأثر الفاعل في دفاع إبراهيم عنهم والتوسل إلى الملائكة مبدياً الأعذار التي يظن أنها تشفع لهم عند الله تعالى، ولكن الله غالب على أمره.
وقد صور القرآن الكريم هذه الحادثة بأروع الصور حيث قال سبحانه فيها: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين... قال إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين) العنكبوت 31- 32. فإن قيل: يظهر من الآيتين أن إبراهيم كان يدافع عن لوط دون قومه وهذا لا يتفق مع الطرح المقدم؟ أقول: إبراهيم لا يجهل أن الله تعالى سوف ينقذ لوطاً وأهله من العذاب ولكن أراد أن يجعل من ذلك وسيلة خفية لأجل صرف العذاب عن أهل القرية، "ولا يرد علينا بأن الغاية لا تبرر الوسيلة لأن القاعدة لا تحمل على عمومها في جميع الحالات هذا على فرض صحتها" ويعضد ذلك ما ورد في قوله تعالى: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط... إن إبراهيم لحليم أواه منيب... يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) هود 74- 76. ومما تقدم يظهر أن الآيات صريحة في دفاع إبراهيم عن قوم لوط لا عن لوط، والنكتة ظاهرة في قوله: (يجادلنا في قوم لوط) هود 74. وهذا الأمر يختص برحمة الأنبياء الفطرية التي لا تخضع للتحليلات الدخيلة إلا بتوجيه من الحق سبحانه، فتأمل هذا المعنى بلطف وسوف يدلك على أسرار القرآن الكريم.
من هنا نعلم أن قيادة الأمة لا يكتب لها البقاء إلا إذا كان العامل الماثل فيها متفرعاً على شخص القائد ومدى حرصه على رعيته، وأنت خبير بأن هذا الفعل قد يكون بمنأى عن الحكام الذين لا يراعون حرمات الله تعالى، وبذلك يظهر الفرق بين القيادة الأرضية التي لا يحافظ أصحابها على الأصل الثابت في النفس البشرية، وبين أولئك الذين جعلوا من أنفسهم معبراً لأقوامهم حتى وصل بهم الأمر إلى الهلاك من أجل هداية الناس والأخذ بأيديهم إلى بر الأمان، وخير مثال على ذلك هو ما نجده متجسداً في السبيل القويم الذي اتبعه النبي (ص) من أجل هداية أهل مكة، وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع متفرقة من القرآن الكريم كقوله جل شأنه: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) الكهف 6. وكذا قوله: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) الشعراء 3. وكذلك قوله سبحانه: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) فاطر 8. وجميع هذه الآيات تهدف إلى تسلية النبي وإذهاب الحزن والأسى عنه، وتبين له أن الأمر لا يحتاج إلى إهلاك نفسه، كون مهمته مع قومه تنتهي عند الإنذار لمن خالف التعاليم التي أمر الله تعالى بها دون سلب الاختيار عن المعارضين للرسالة.
وبناءً على ذلك نلاحظ مدى تكرار الحق سبحانه للمفاهيم التي تدلل على عدم سلب الاختيار عن المرسل إليهم، وكما ترى فإن مخالفة هذا النهج لا تتناسب مع الدعوة الإيمانية علماً أن الله تعالى لديه القدرة على إخضاع الناس للعبادة القسرية، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في كثير من الآيات كقوله: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) الشعراء 4. وكذا قوله: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس 99. وقوله تعالى: (أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً) الرعد 31. ولذلك جعل الحق سبحانه جميع الأبواب مفتحة لما يختاره الناس كما في قوله: (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً) النبأ 39. وكذا قوله: (لمن شاء منكم أن يستقيم) التكوير 28. وقوله تعالى: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً) المزمل 19. وكذلك قوله: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً) الكهف 29. وهنالك آيات أخرى بهذا الشأن، ومن هنا يتضح أن الإيمان أو الكفر المشار إليهما في الآية الأخيرة لا يعززان القدرة الإلزامية على استيعاب المعاني المتفرعة منهما دون الوقوع في التبريرات الضاغطة على السلوك الشخصي للاتجاهات الاختيارية التي يتخذها الإنسان إذا ما علمنا أن الآية بعيدة عن التوبيخ، وقياساً لذلك تظهر النكتة في آية البحث التي بين تعالى من خلالها عدم مسؤولية النبي عن أصحاب الجحيم من الأحياء دون السؤال عن حال أبويه كما ذهب إلى ذلك قليلي الخبرة من المفسرين، وكما ترى فإن الفعل يتعلق بالله سبحانه دون النبي وهذا ظاهر.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) البقرة 119. الآية تبين أن مهمة النبي تنتهي عند التبشير والإنذار، ويظهر في منطوقها تبرئته (ص) عن الاتجاهات السلبية المتخذة من قبل قومه كونه غير مسؤول عنها، والجزء الأول من الآية أعني قوله: (إنا أرسلناك بالحق) يحتمل مجموعة من الوجوه التي يشهد لها القرآن الكريم أهمها:
أولاً: المراد من إرساله بالحق أي بالصدق، ويشهد لهذا الوجه قوله تعالى: (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين) يونس 53.
ثانياً: المراد من إرساله بالحق أي إرساله بالقرآن، ويشهد لهذا الوجه قوله تعالى: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج) ق 5.
ثالثاً: المراد بالحق الإسلام، ويشهد لهذا الوجه قوله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) الإسراء 81.
رابعاً: الحق الذي يقابل الباطل، ويشهد لهذا الوجه قوله تعالى: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) الأحقاف 3.
وأرجح الاحتمالات هو الاحتمال الثاني نظراً لما يفيده السياق... فتأمل ذلك بلطف.
من كتابي: السلطان في تفسير القرآن
مقالات اخرى للكاتب