من أعجب ما أسمعنا اياه عدد من أعضاء البرلمان دفاعاً عن "حقهم" وسائر أعضاء المجالس المنتخبة في الحصول على رواتب ومخصصات ورواتب تقاعدية مبالغ فيها، ان هذه الرواتب والمخصصات ستحصّن هذه الفئة من العاملين في ميدان الخدمة العامة من التورط في عمليات الفساد المالي والاداري!
المعادلة إذن بالنسبة لأصحاب هذه الأطروحة، هي أن يُمنح أعضاء البرلمان والمجالس المحلية وسائر المسؤولين الكبار في الدولة الرواتب والمخصصات المبالغ فيها، وإلا فسيلجأون الى الخوض في مستنقع الفساد المالي والاداري.
هذه المعادلة إن قبلنا بها يتعيّن تعميمها على موظفي الدولة كلهم، من أعلى الدرجات الى أدناها، فاستناداً الى المنطق نفسه لابدّ من منح الموظفين، باختلاف مستوياتهم، رواتب ومخصصات ورواتب تقاعدية عالية كيما نضمن حصانتهم ضد فرضهم الرشا والكوميشنات على مراجعي الدوائر الحكومية والمتعاقدين معها من المقاولين وارباب المال والاعمال لتنفيذ المشاريع. لكن معظم قضايا الفساد المالي والاداري المعروضة أمام المحاكم الان (وكذلك تلك الموقوف عرضها على المحاكم لأسباب يتعلق البعض منها بالتوافقات والتفاهمات والتواطؤات والتنفيعات المتبادلة بين الكتل السياسية) أبطالها من كبار المسؤولين في الدولة (وزراء، نواب، وكلاء وزارات، رؤساء مؤسسات ومدراء دوائر)، وهم جميعاً يتمتعون برواتب ومخصصات وامتيازات كبيرة، فلماذا لم تَحُلْ هذه الرواتب والمخصصات والامتيازات دون انزلاقهم الى مستنقع الفساد المالي والاداري؟
الغالبية العظمى من العاملين لدى الدولة هم من الموظفين والعمال الصغار والمتوسطين، أي من محدودي الدخل الذين تأبى على أكثرهم أخلاقهم ووطنيتهم تلويث أيديهم وأنفسهم بالسحت الحرام، ويفضلون العمل في مهن حرة اضافية (سائقو تاكسي، باعة..) لتأمين الحياة الكريمة والشريفة لهم ولعوائلهم. وعليه فليس بالضرورة أن النواب وأمثالهم سيتحلون بالاخلاق الحميدة ونظافة اليد والروح الوطنية بمجرد تمتعهم برواتب ومخصصات مبالغ فيها. بل ان هذه الرواتب والامتيازات يمكن أن تخلق لهم سطوة اجتماعية وسلطة تتيح لهم الحصول على المزيد من المنافع والمغانم.
لا أظن ان مشلكة الذين احتجوا على الرواتب والمخصصات الكبيرة التي اقترحها النواب لهم ولأضرابهم في الدولة، تتعلق بهذه الرواتب والمخصصات، فلو كان النواب وأعضاء المجالس المنتخبة قد أدوا دورهم تجاه المجتمع، ولم يحنثوا بوعودهم لناخبيهم وباليمين الدستورية التي أدوها، وشرّعوا القوانين التي من شأنها التخفيف، في الأقل، من المحنة المركبة المتواصلة (فقدان الأمن، وانهيار نظام الخدمات العامة، وتفشي الفقر والبطالة والفساد المالي والاداري ...) .. لو فعلوا هذا ما كان أحد سيسأل كم يتقاضون من الرواتب والمخصصات والرواتب التقاعدية وما نوع الامتيازات التي يحظون بها.
على مدى ثماني سنوات لم يحصل الناس الا على المزيد من المشاق والمحن على يد الطبقة السياسية الحاكمة، بكتلها وائتلافاتها واحزابها المختلفة .. والحركة المناهضة للرواتب والمخصصات والامتيازات هي بداية ثورة حقيقية على هذه الطبقة .. هذا ما يتعّين أن يفهمه النواب والوزراء وأعضاء ما يسمى بالمجالس المنتخبة وأمثالهم من المتحكمين بمصير البلاد وأهلها.
مقالات اخرى للكاتب