العراق تايمز: كتب محمد سهيل احمد
في اواسط الستينات وقع بين يدي كتاب حمل عنوان (أقدّم اصدقائي العرب) لمؤلفه جون فان ايس تحدث فيه عن تجربته كمؤسس ومدير للمدرسة الامريكية في البصرة او مدرسة الرجاء العالي كما عرفت رسميا وشعبيا . وبحكم عدم الاستقرار الذي لازم حياتي فقدت تلك النسخة النادرة من الكتاب لهذا السبب او ذاك . ولكن من هو جون فان ايس او وانيس كما اعتاد ابناء الجنوب العراقي مناداته ؟
يقدم الكاتب سلام كاظم فرج في مقالة له نشرها على صفحات ( المثقف ) الالكترونية نبذة عن الدكتور فان ايس من واقع تماس والده المباشر معه عبر حكاية تشع بالعديد من الدلالات التي تمنحنا صورة اكثر وضوحا عن شخصية عاشت في الجنوب لما يزيد عن السبعة واربعين عاما ولعبت دورا هاما في تطوير الجانب التربوي للتلميذ العراقي لما يزيد عن الستة عقود ( 1910 ـ 1972)
يقول الكاتب سلام كاظم : "الدكتور فانيس حاصل على شهادة الدكتوراه في علم اللاهوت وعلم التاريخ. كتب عن دخوله الى ارض العراق ومعيشته بين عشائر العراق والناس البسطاء في كتابه (أقدم أصدقائي العرب).. الذي كتبه باللغة الانكليزية. وترجمه في الاربعينات من القرن الماضي ..جوزيف عبو.. من أهالي الموصل.. وطبعت النسخة العربية في مطبعة موصلية . لقد سجل جون فانيس إنطباعاته عن الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك الفترة الممتدة بين بداية القرن العشرين ومنتصفه.. وركز في انطباعاته على سكان الاهوار وعشائره.. وطبيعة عاداتهم وتقاليدهم وتفكيرهم. وأورد بعض المعلومات عن جذورهم العريقة وجذور الديانات التي تمتد الى ماقبل الميلاد وتحدث عن الصابئة المندائيين شارحا اسباب تمركزهم قرب الأنهار "
موافقة الباب العالي
في بادئ الامر لم يكن فانيس مهيئا من الناحية المهنية لأخذ مهمة تأسيس تلك المدرسة على عاتقه ، غير انه كانت لديه قناعة راسخة بأن العملية التربوية كانت بحاجة الى اعتراف رسمي من قبل السلطة العثمانية . وفي ضوء ذلك التوجه أجرى مفاوضات شاقة مع الجانب التركي مستعينا ببعض الشخصيات ذات النفوذ الواسع كطالب النقيب والشيخ خزعل مع القيام بأكثر من رحلة تفاوضية الى الباب العالي الى ان تمكن اخيرا من استحصال ارادة عليا من لدن السلطان عبد الحميد نفسه موقعة بالحبر المذهب بالموافقة على تأسيس مدرسة ابتدائية للبنين وأخرى للبنات .
لقد تطلب مشرةع التأسيس عامين إضافيين للتنسيق مع الجهات الرسمية المحلية من اجل استحصال موافقتهم المبدئية بقدر تعلق الامر بالأبنية وصنف الدراسة التي سيتم اختيارها والكتب المقررة لتلامذة المدرسة والمعلمين الكفء .
في عام 1912 شرعت المدرسة أبوابها للتلاميذ بواقع ثمانين تلميذا مثلوا شتى شرائح المجتمع البصري . نصف العدد تقريبا كان للمسلمين والبقية من طوائف مختلفة . وبعد ستة شهور افتتحت مدرسة للبنات بادارة السيدة دوروثي فيرمان فانيس زوجة المؤسس لتصبح اول مدرسة للإناث في البصرة . وقد استلهم اسم المدرسة من كلية الرجاء في هولاند ميتشيغان التي تخرج منها فانيس ذو الاصول الهولندية كما يتضح من اسمه .
اشكاليات اللغة
كان ايمان الدكتور فان ايس راسخا بان ثقل مسؤوليته لم يكن يرتكز على تهيئة شبيبة متأمركة بل يرتكز على بيئة تلامذته وعلى حضارتهم المحلية . وضمن ذلك التوجه اعتمدت العربية كلغة لجميع المواد الدراسية ــ عدا مادة اللغة الانجليزية بطبيعة الحال ــ لا سيما وان الدكتور فان ايس اتقن اللهجة العراقية بعد الفصحى التي كان درسها في معهد برنستون التقني بنيو جيرزي من واقع حبه الشديد للغة العربية . اما فيما يتعلق باللغات الاخرى فقد عوملت كمواد دراسية مستقلة فالتركية درست لكونها لغة الدولة المستعمرة ( بكسر الميم ) في حين درست اللغة الفارسية بحكم الجيرة والمصاهرة والانضواء ، حتى ان الشيخ خزعل قام بتسجيل تسعة من ابنائه واحفاده في المدرسة . اما اللغة الفرنسية فكان لغة بعض الأوساط الدبلوماسية . غير ان اللغة الانكليزية شهدت تطورات مضطردة من واقع كونها لغة النشاط التجاري والكولونيالي على حد سواء . عموما كانت دراسة هذه اللغات اختيارية ،غير ان الانكليزية استخدمت وإنْ بشكل محدود في مواد كالرياضيات والجغرافية . ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى اوقفت الإدارة تدريس تلك اللغات الرديف مقتصرة على استخدام اللغة العربية بشكل رئيس والانكليزية الى حد ما .
المعلمون والمناهج التعليمية
العقبة الأخرى التي واجهت فانيس تمثلت في صعوبة الحصول على الكادر التدريسي المؤهل . ولتذليل تلك العقبة استعان بشخصيات جرى استقدامها من ماردين وديار بكر امثال عزيز مختار ، الياس مختار ، جليل عمسو الذي سيقوم فيما بعد بإعادة ترجمة كتاب فانيس ( أقدّم اصدقائي العرب ) الذي عرض في المكتبات العراقية في حقبة الخمسينات ، ومن الشخصيات التي استعان بها كرابيت عبد الاحد الذي سيتولى في قادم السنوات منصبا كقس للكنيسة البروتستانتية الايفانجليكية في البصرة بالاضافة الى شخصيات مؤهلة اخرى . اما بالنسبة للمناهج التعليمية فقد بذل جهودا مضنية في سبيل توفيرها عبر اتصالاته بمطابع ومكتبات كل من القاهرة وبيروت والقدس والهند ، حتى تمكن اخيرا من ضمان توفيرها لتلامذة المدرستين . غير ان الامور اخذت بالتبدل مع تأسيس الدولة العراقية في بداية العشرينات من القرن الماضي وتبلور الوعي المعرفي للشخصية العراقية واستعانة وزارة المعارف بخبرات عربية في المقام الاول في صياغة المناهج الرسمية مثل ساطع الحصري ، محمد بهجة الاثري ، طه الهاشمي ، سامي شوكت وآخرون . وقد استطاع جون فانيس ان يمسك العصا من المنتصف اذ في الوقت الذي حافظت مدرسة الرجاء العالي على شخصيتها ، لم تجد بأسا في الاستعانة بخبرات المناهج الحكومية .
حكايتان متضاربتان
في عام 1939 أي بعد ثمان وعشرين عاما من تأسيس مدرسة الرجاء العالي ، غادر جون فانيس البصرة مع زوجته دوروثي متوجها الى بلده الأم في اجازة أرادها ان تكون قصيرة ، الا ان اندلاع الحرب العالمية الثانية وتقطع سبل المواصلات البحرية والجوية بسبب تهديدات المانيا النازية منعاه من العودة الى مقر عمله الى البصرة . ولكنه افلح في نهاية الحرب في العودة مستعيدا منصبه كمدير لتلك المؤسسة التربوية . وما ان انصرم عامان تقريبا حتى داهمه المرض واضطره لتقديم طلب التقاعد قبل ان توافيه المنية في سنة 1949 . وأمامي حكايتان تتحدثان عن أيامه الاخيرة إذ وردت في كتاب ( عبير التوابل والموانئ البعيدة ) لمؤلفه احسان وفيق السامرائي المعلومة التالية :
" واستمر الدكتور فانيس يعمل في البصرة حتى يوم 22نيسان سنة 1949 عاد بعدها الى اميركا بعد غيبة 49 سنة ، والأغرب ان الاب فانيس توفي في 26 نيسان 1949 بعد أربعة ايام من وصوله الى وطنه !! " ص 190 .في حين ان رواية اخرى وردت بشكل رسالة من غوسلينك المدير الذي حل محل فانيس اثناء غيابه ثم عاد ليترأس ادارة المدرسة حتى تقاعده عام 1966 . جاء في الرسالة ان فانيس : " توفي في البصرة في 1949 . وكان قبلها يدعو الرب ان يحقق امنيته على ارض البصرة وسط من تعهدهم عقلا وروحا . وقد استجاب الرب لدعائه ليسجى جثمانه في مقبرة المكينة بالبصرة قاصدا مقبرة الانكليز القريبة من مكينة السوس بالحكيمية . امامنا هنا روايتان لايشك في درجة موثوقيتهما . لكن أي الروايتين هما الأقرب للصدق ؟ هذا الامر بحاجة الى بحث دقيق .
في الميزان
قدم الأب او الدكتور فخريا جون فانيس ضمن البعثة التبشيرية الامريكية في زمن لم تكن الولايات المتحدة ذات تطلعات استعمارية بارزة ــ شأنها وشأن بريطانيا وفرنسا وايطاليا ـ فهي لم تشترك في الحرب العالمية الاولى التي نشبت في 1914 الا في نيسان 1917 أي بعد سنتين ونصف من حرص ساسة الدولة على ابقائها على الحياد . وتكرر الأمر في الحرب العالمية الثانية اذ بقيت الولايات المتحدة على الحياد وفي معزل عن ارهاصات الحرب التي اندلعت في الاول من ايلول 1939 . غير انها اضطرت الى خوض الحرب اثر بيرل هاربر التي شنتها اليابان ضد المصالح الامريكية في السابع من كانون الاول 1941 .
ارى شخصيا ان هذه المحصلات لا تعفي البعثة التبشيرية من الدوافع الدينية والسياسية في المقام الأول ، غير ان نظرة متفحصة لمجمل تجربة مدرسة الرجاء العالي تعكس نقاطا ايجابية اكثر من تلك السلبية حيث اسهمت المدرسة الامريكية في تطوير العملية التربوية متمثلة بالخروج من وقائع الفترة المظلمة التي رافقت النفوذ العثماني على مدار قرون . كما ان تقييما موضوعيا لتجربة الدكتور فانيس يعكس طبيعة دوره الروحي والتربوي على الواقع التربوي في الجنوب العراقي عموما وعلى العراق بشكل عام .
لقد أسهمت المدرسة في تخريج المئات ممن أسهموا في بناء العراق الحديث ولعبوا أدوارا كبرى في عملية البناء السياسي والحضاري حيث قدمت رموزا علمية وادبية وسياسية امثال اسرة مختار وعمسو اللتين خدمتا الطب من خلال افتتاح صيدليتي ( مختار ) و( عمسو او الصيدلية الوطنية ) كما درس فيها ابناء الشيخ خزعل واحفاده وسواهم من ابناء المدينة من فقرائها ووجهائها على حد سواء .
ويذكر ان مؤسس الحزب الشيوعي ( فهد ) كان من طلبة مدرسة الرجاء العالي شانه شأن آخرين تخرجوا منها وقدموا خدمات كبرى لبلدهم .
خلاصة القول ما أورده الكاتب سلام كاظم عن الأب جون فانيس : " بغض النظر عن الأسباب التي دعته للقدوم الى العراق والاستقرار فيه (والتي ظاهرها اسباب تتعلق بالتبشير الديني المسيحي) لابد من الحديث عن جهوده وخدماته التي قدمها للمجتمع العراقي، البصري خاصة ودوره في مكافحة الأمية ونشر ثقافة التسامح والمحبة.
الكاتب: كاتب عراقي من البصرة . عمل في مجال تدريس اللغة الانكليزية لاكثر من ثلاثة عقود كما عمل في الصحافة وما زال.