الشَنَفْرى، أي غليظ الشفتين، واحد من أشهر صعاليك العرب ذوي الجذور اليمنية، و واحد من أشهر فُتاك العرب في الجاهلية أيضاً، و هو "عمرو بن مالك الأزدي"، من بني الحارث بن ربيعة، مات قبل الهجرة المحمدية بـ "70" سنة..
أجمع كل الذين تناولوا سيرته أنه نشأ في قبيلة "فهم" العدنانية بعد أن قتل الأزديون أباه و انتقلت أمه إلي هناك، كما أجمعوا أيضاً علي أنه اختص بغزواته " بني سلامان بن مفرج" أحد بطون قبيلة الأزد طلباً لثأر أبيه وانتقاما منهم، برفقة رائده في الصعلكة "تأبط شراً"، وهو أحد المنتمين إلي قبيلة "فهم"، و أشهر صعاليك العرب علي الإطلاق، وكانا صديقين،
ومما نجا من الذوبان في هوامش الماضي ووصل إلينا عن ذلك الشاعر الصعلوك أنه كان أحد العدائين العرب المعدودين، وكانوا أربعة يسبقون الغزلان في عدوها، هو و "السليك بن السُلكة" و "أوفي بن مطر" و "عمرو بن براقة"، لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي، غير أن هناك مقولة تراثية رائجة ترجح صحة هذه الرواية بالنسبة للـ "شنفري" علي الأقل، إذ كان العرب يقولون في موطن وصف أحدهم بسرعة الجري :
- أعدى من الشنفري..
ينسبون إليه أيضاً "لامية العرب"، وهي قصيدة مشهورة وثرية وسليمة البناء بشكل عميق، يقول مدخلها :
أقِيمُوا بَني أمّي صُدورَ مَطِيـِّكم / فإنّي إلى قَوم ٍسِوَاكُمْ لأمْيَلُ
فقدْ حَمَتِ الحَاجَاتُ وَالليلُ مُـقمِرٌ / وَشُدًّتْ لِطـَيَّاتٍ مَطـَايَا وَأرْحُلُ
وَفِي الأرضِ مَنأىً لِلكَريم عَن الأذَى / وَفيهَا لِمَنْ خَافَ القِلى مُتَعَزَّلُ
وإني لأكاد أجزم بعدم صحة نسبتها إليه، و أنها منحولة، تقف وراءها أحاسيس مختلفة ومتضاربة و أصابع كثيرة، و لعلها من صنع عدد من النحويين، فهي لا تتفق لا من حيث الشكل ولا الأسلوب ولا بصمة الإحساس الشعري مع ما وصلنا من شعر "الشنفري" غيرها، ولا شعر المرحلة، أو، لعلها !!
لكن أغرب ما وصلنا من أكاذيب العرب، و ذاكرة تراث العرب حبلي بالأكاذيب، هو قصة عالقة بـ "الشنفري"، ولذلك السبب وحده، وقع اختياري عليه كمدخل لهذا المقال..
يزعمون أنه نذر أن يقتل من بني "سلامان بن مفرج"، قاتلي أبيه، مائة رجل، فقتل منهم "99" رجلاً ثم مات، وحدث بعد موته أن رفس جمجمته رجلٌ منهم، فدخلت في قدم ذلك الرجل شظية من عظام الجمجمة فقتلته وأبرَّ "الشنفري"، من العالم الآخر، بقسمه، وأوفي نذره!!
كذبة جميلة، و مقدسة، ككل أكاذيبنا، جميلة و مقدسة، ينتابني الآن بفضل "باسم يوسف"، شك في صحتها،،
ذلك أن، إحدي أكاذيبنا الجميلة والمقدسة أتيح لـ "باسم يوسف" دون قصد منه، حين حاول أن يكون لصاً دون قصد منه أيضاً، أن يعريها ويعري بها حضيضنا المسكوت عن عمد عنه !!
يجب أن أقول أن هذا المقال ليس دفاعاً عن إنسان له مخالبه الخاصة مثل "باسم يوسف"، فهو مسلح بأفكار فولاذية جعلت منه رقماً من الصعب تجاوزه، كما جعلت منه الواقع الذي يهجم علي خيال الحالمين بعودة القطيع إلي حظيرة "مبارك"، والمؤشر الأشهر لسطح الحرية في مصر ..
لكنه دفاع عن المستقبل، عن الوطن الذي لا يريدون له أن يغادر المؤخرة لمصالحهم الشخصية، فقط مصالحهم الشخصية، و فقط جداً..
في نهاية الأسبوع الماضي ثارت ضجة كبيرة، و قامت الدنيا و لم تقعد، و تهجي إعلام البلاط، مقروءاً و مسموعاً و مرئياً، لغة الفاتحين، لقد اكتشفوا بعد بحث طويل و منهك لماذا نحن في المؤخرة، و لماذا فشلت ثورة "25 يناير"،
لقد اقتبس العميل "باسم يوسف" عدة عبارات من مقال لكاتب يهودي يدعي "ابن جودا"، وهذه بالطبع فرصة من الحماقة أن يفلتها الشرفاء للـ "تشويش" علي شرف الرجل ..
كنت علي ثقة أن "باسم يوسف" سوف يتجاوز كل ألاعيب الصغار هذه بكلمة أو كلمتين، وهذا ما قد حدث فعلاً، لحسن الحظ، غير أنني لم أتخيل أن لشخصية "باسم يوسف" بعدٌ سرِّيٍّ قد يمتدُّ بتجلياته من خلال هذا البعد إلي ما هو أبعد من مجرد تجاوز التفاهات، بل الطعن دون قصد في الشغاف، بالضبط كالصياد الذي لا يطارد الفرائس، بل تطارده الفرائس !!
لقد حدث أن استوقفني شئ مهم كان العاهة المشتركة بين كل المقالات التي أفردت للهجوم علي "باسم يوسف"، وفي وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً، بالإضافة طبعاً إلي عناوينها الرنانة، من طراز "السقوط في بئر"بن جودا"، و "الصعود إلي الهاوية" !!
و هو أنهم يجمعون علي أن الفنان "محمود عبد العزيز، أو "عز الدين"، ضابط المخابرات المصرية"، في فيلم "إعدام ميت"، ضحك علي "أبو جودا"، ضابط "الموساد"، والآن ضحك ابنه "بن جودا" علي "باسم يوسف" !!
مزاح مؤقت، وانحدار فكري طبعاً، مع ذلك، هي الشظية التي دخلت في عين كل الذين رفسوا سيرة "باسم يوسف" دون قصد منه أيضاً !!
لعل بهجة الانتباه إلي المفارقة اللغوية بين اسم المفكر "ابن جودا"، و اسم "أبوجودا"، اسم ضابط الموساد في فيلم "إعدام ميت" استدرجتهم بكل سهولة، وهذه إحدي عادات الحمقي و الملونين علي الدوام، إلي السقوط في حفرة إحدي أكاذيبنا المقدسة، و إذ ظنوا أنهم يؤدون دور الصياد كانوا يؤدون أدوار الفرائس السهلة !!
فلا يخفي علي أحد أن مصرعلي شاشات السينما واحدة من أعظم دول العالم، و في الأغاني و في المسلسلات أيضاً، و أن "نادية الجندي" في سبيل مصر، كادت أن تضحي بحياتها، و تسللت بشجاعة المنتحرين، إلي وزارة الدفاع الإسرائيلية، المخترقة من مخابرات مصر، و النكتة الشهيرة "خالتي بتسلم عليكي"، و أمدتنا، و لها الحمد، بكل خطط اسرائيل المستقبلية للحرب علي مصر، فاطمئنوا يا أعظم شعوب الأرض علي الشاشات، و ناموا في سلام !!
كما لا يخفي علي أحد أن "عز الدين"، ضابط المخابرات المصرية، و سبحان الله، هو أيضاً الخائن "منصور" في الوقت نفسه، ذهب إلي اسرائيل، بعد أن ضحي بإصبعه في سبيل مصر طبعاً، ليضحك علي "أبو جودا"، و يعود في نهاية الفيلم، سبحان الله، فيلم، بالبشري للمصريين جميعاً..
و و الله، والله، و الله، إني لأشعر بالخجل لمجرد كتابة مضمون تلك البشري، إسرائيل لا تمتلك قنبلة نووية !!
لعل الكثيرين، بوصف المصريين شعباً سينمائي الثقافة، يتذكرون الحوار بين "عز الدين" و "أبو جودا" قبل دقائق من نهاية الفيلم علي نحو أكثر وضوحاً مني ، مع ذلك ، أعتقد أنه كان هكذا :
محمود عبد العزيز : كشفنا كدبكم !!
يحيي الفخراني : خوفتكم الإشاعة ، هاااه !!
نكذب، ثم نتعهد أكاذيبنا، ونواظب علي حراستها حتي نضفي عليها ظلاً من الحقيقة، وهذا هو شأننا في كل جهات الحياة !!
إن المرء ليعجب كيف لدولة تحترم نفسها أن تسمح حتي الآن بإذاعة فيلم هذا جوهره ؟!
إذا لم تستح فافعل ما شئت ، وقل ما شئت أيضاً ..
مقالات اخرى للكاتب