تُعتَبَرُ عقيدَةُ ظُهُورِ الإِمامِ المَهدِي(عج)، وَتخليصُ البشريّةِ مِنْ مُعاناتِ الظُلمِ والجوّرِ والاستبدادِ، ليسَتْ طرحاً تنفَرِدُ بهِ الرسالةُ الاسلاميّةُ المجيدةُ فحسبْ، بَلّ إِنَّ هذه الفكرةَ تشتركُ بِها الدّيانتينِ السّماويتينِ اليَهوديّة والمَسيحيّة أيضاً، إذْ تؤكدانِ الاعتقادَ بظهورِ المَسيحِ المخلّص. وهذا الاتّجاهُ يُوجَدُ حتى عندَ بعضِ الدّيانات غيّر السماويّة، فإِنّها تعتقدُ بانتظارِ الشخصِ المُنقِذِ لأتباعِها. وعلى مستوى المُعتقَد الإسلامي، فجميعُ المَذاهِبِ الإسلاميّةِ تَتّفقُ على وجودِ الشخصِ المُنقِذْ، وحتميّة دوره العالميّ ليَملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً، كما مُلِئَت ظُلماً وجوراً. بيّدَ أَنَّ الاختلافَ ينحصرُ بأنَّ المذاهبَ الاسلاميّةِ (عدا المذهب الجعفري)، تعتقدُ بأَنَّ الإمامَ الحُجّةِ(عج)، لَمْ يُولَدْ بَعدّ، وإنّه سَيُولدُ فِي الفترةِ التي يريدُ اللهُ تعالى ذلكَ بحكمته. بيّنما عندَ مدرسةِ أهلِ البيّتِ(ع)، فإِنَّ الإمامَ(عج) موجودٌ بيّن ظُهراني العَالمِ الآن. ليعيشَ واقعيّةَ التّجربةِ الإنسانيّةِ، بكلِّ أبعادِها وأدوارها شرِّها وخيرِها زماناً ومكاناً في مراحلها الثلاث، الماضي، والحاضر، والمستقبل، (إلى أنْ يأذنَ اللهُ تعالى بظهورهِ الشريف، وفقَ مقتضياتِ الحكمةِ الإلهيّة).
ولا نُريدُ أَنْ نُنَاقِشَ أَيِّ الأدلّةِ أَقوى عندَ هذا الطّرَفِ أَو ذاك، ولكنْ نُريد أنْ نبحثَ في موضوعِ الاعتقادِ بمفهومِ ثقافَةِ انتظارِ الإِمام(عج)، المُدَعّمَةِ بعددٍ كبيرٍ مِنَ الأحاديثِ المُستفيضَةِ، والدّقيقةِ والمُمحصّةِ، غايَةٍ في الدّقةِ والتّحقيق، لدرجةِ أَنْ لا يرقى إليّها شَكٌّ بالمرّة. إِنَّ الاعتقادَ بهذهِ المسألةِ، وأدبيّاتِها وقدسيّتِها، وسلوكِ المؤمنينَ إزاءَها، إضَافةً إلى طَقسيَتِها الإيمانيّةِ، وأَصالتِها الفكريّةِ، وبُعديها التاريخي والمُستقبلي، يَجعلها (كمجموعٍ) يشكّلُ برُمَّتِهِ (ثقافَةَ الانتظارِ) عنْدَ أَتباعِ مدرسةِ أَهلِ البيّت(ع).
والسؤالُ: هلْ يُحْسِنُ المؤمِنونَ بانتظارِ الإِمامِ الحُجَّةِ(عج)، باستخدام ثقافَةِ الانتظارِ بشَكلٍ سَليمٍ، وبشَكلٍ يَليقُ بمنهجيّةِ مَذهبِ أَهلِ البيّتِ(ع)، وبإسلوبٍ يُوظِّفُ الطّاقات ويشحنُها، باتّجاهِ تطبيقِ هذه الثقافَةِ عمليّاً ؟.
للإجابةِ، لابُدَّ أولاً أَنْ نستعرِضَ خَصائِصَ ثقافـَةِ الإنتظارِ، وعلى ضَوئِها نَعرِفُ خصائصَ المنتظرينَ، وبالتالي نحكُمُ على سلوكيّات المؤمنين بهذه الثقافَة،ِ ومقدارِ تطبيقِهم أو خُروجِهم عن ثقافَةِ الإنتظار. وهذه الخصائِصُ هي:
إِنَّ البُعدَ النّظريّ لثقافَةِ الإنتظار، يَرتبطُ مُباشرةً بأصلٍ مِن أُصولِ الدّين الحنيف، وهو وجوب الإعتقاد بالإمَامَة. وبذلك تكونُ هذهِ الثقافَةُ ذاتَ بُعدٍ مُعتقديّ، وإِنَّ الاستخفافَ بها أَو إِلغائِها، يُعتبرُ هَدماً لأصلٍ مِنَ الأُصولِ الدّينيّةِ لعقيدَةِ مَذهبِ أَهلِ البيّتِ(ع). لذا فثقافَةُ الإنتظارِ ذاتُ أَصلٍ عقائديّ رصين.
إنَّ الإنتظارَ بحدِّ ذاتهِ، هو نوعٌ مِنْ أَنواعِ عبادَةِ الخالقِ تعالى. كوّنُ المُنتَظِرُ يعملُ وفقَ خطّةٍ إلهيّةٍ مرسومةٍ، تَحكُمُ العالَمَ البشريّ بموجِبِ منظورٍ رَبّانيّ، شـاءَ اللهُ تعالـى بحكمتـهِ، أًنْ تكونَ صيّرورةُ البَشريّةِ، منتهيةً إلى وضعِ العَدلِ والحقِّ والإحسانِ. وتُكتبُ الهزيمةُ الماحِقَةُ، للباطلِ والظُلمِ والجوّرِ، ويَشهدُ العَالمُ نهايةَ وجودِ الطواغيتِ فيه.
تُحتّمُ ثقافَةُ الإنتظارِ على رُوادِها، أنْ يكونَ المُنتَظِرُ على درجةٍ مِنَ الوعي والمَعرِفَةِ، تُؤَهِلَهُ بأنْ يكونَ عضواً متفاعلاً وكياناً مُتحرّكاً بَنّاءً في المجتمع. يَسيرُ على ضوءِ تصوّراتِ المَنظومَةِ الفكريّةِ الإسلاميّةِ الشاملةِ، التي يتغذّى مِنها فكرياً ويَبني علاقاتَهُ معَ مُجتمعهِ والعالَمِ الخَارجيّ. بحيّث يكونُ له الدّورُ المحوريّ الإيجابيّ، في بنَاءِ أركانِ الخَيّرِ والعملِ الصّالِح. وإنَّ هذا الأَثرَ يَجبُ أنْ يَترُكَ بصماتَهُ الواضِحَةُ التّأثيرِ على الشّخصِ الآخر، سواءً كانَ مُؤالِفاً أو مُخالِفـاً لـهذهِ الثقافـَةِ. لاسيّما أَنَّ الأصلَ في العَملِ الإِسلاميّ، هو التواصِلُ مع الآخرينَ بواقعيّةٍ، ومدِّ جسورِ التّعاونِ معهم، وبثِّ روحِ الاحترامِ المُتبادَلِ بيّنَ الجميع.
تَحِثُّ ثقافَةُ الإنتظَارِ المؤمنينَ بها، بأنْ يكونوا على قُربٍ مِنَ المَناخَاتِ العلميّةِ والسّياسيّةِ، المَحليّةِ مِنها والعالميّة. بُغيةَ فَهمِ التّحولاتِ التي تجري في العالَمِ، لقراءَةِ الأحداثِ عَنْ كثبّ، للوصولِ إِلى الإدراكِ الواقعيّ لحقيقَةِ المرحلَةِ الآنيّةِ، والمرحلَةِ المُستقبليّةِ، مِنْ أَجلِ رَسمِ مَوْقِفٍ مُحدَّدٍ، على ضوءِ ما تمليهِ المَصلَحَةُ الإسلاميّةُ العامّة. إضافةً إلى اطلاعاتِهِم الأخرى، التي يُمكنُ تَحصِيلُها مِنَ القراءآتِ الموضوعيّةِ والعلميّةِ، للتّاريخِ الإِسلامِيّ والعَالميّ. فهناكَ الدروسُ الجليلةُ الفائدَةِ، التي تُغني الخِبْراتِ وتُنَمّي القُدرات.
لكنْ معَ الأسفِ الشَديدِ فإِنّ المُسلمينَ، أَكثرُ البشَرِ إهمالاً لتاريخِهِم، بالرغمِ مما لديّهِم مِنْ المصَادِرِ الغنيّةِ والثريّةِ بالموادِّ التّاريخيّة، التي تحتوي الكثيرَ مِنَ التجاربِ الإنسانيّةِ. بيّنمَا نَرى العكسَ مِنْ ذلكَ فِي العالَمِ الغَربِيّ، الّذي يُقَدِّسُ تاريخَهُ، ويعتبرُ التوّراةَ المزيّفةَ، مِنْ أَهمِّ مصادرهِ التّاريخيّةِ الموثوقَةِ. لذا نَجِدُ عباقرةَ سياسيّ الغَرب، هُم الذين دَرسوا التاريخَ بدقّةٍ واهتمامٍ شديدَين، كما درسوا العُلومَ الصِرفَةِ، مثلما درسوا العُلومَ الإنسانيّة لمُختلَفِ شُعوبِ العالم.
تَدفَعُ ثقافَةُ الانتظارِ اتباعَها، للعملِ وفْقَ نَسَقِ وإِطارِ الاستراتيجيّةِ المهدويّةِ (اصلاح المجتمع)، باعتبارهِم مَراكزَ تغييرٍ مرحليّةٍ، تسعى لتهيأةِ الأَجواءِ المُناسبَةِ، لانبثاقِ دَولـَةِ العَدلِ الإلهــيّ. فالتّطابقُ في الأَهدافِ بيّنَ ثقافَةِ الإنتظارِ، وثوّرةِ التغييرِ العالميّةِ، على يَدِ الإِمامِ الحُجّةِ (عج)، يُشكِلُ خُطّةً محوريّةً استراتيجيّةً موحدةَ الأهدافِ بيّنَ الجانبيّن.
مِنْ جهةٍ ثانيةِ أنَّ ثقافَةَ الإنتظارِ تهيئُ البيئَةَ العالميّةَ المناسِبَةَ، لاستقبالِ صاحبِ المَشروعِ التّغييريّ العَالَميّ. بحيثُ تكونُ مهمَتُهُ(عج)، الانطلاقَ بمشروعِهِ المُؤَهَلِ بالمؤمنينَ بِه، ولا يحتاجُ لبناءِ الكوادِرِ المُتقدِمَةِ للعمل. كما أَنَّ القواعدَ الشعبيّةِ، ستكونُ مُهيأةً فكرياً وعقائدياً ونفسياً، لاستقبالِ صَاحبِ الأمر(عج).
إنَّ التفاؤلَ بالمستقبلِ، والجَلَدِ والصَبرِ على المكارهِ، وتَوطينِ النّفسِ على قبولِ الامتحانِ والنجاحِ فيه، والتَفاعُلِ بواقعيّةٍ وعلميّةٍ وموضوعيّةٍ مع الأَحداثِ والمُتغيّراتِ، وتهيأةِ المُقَدِّماتِ وكسْبِ النتائجِ، بَعدَ الاتّكالِ على الله تعالى، إضافةً إلى العقليّةِ المُتَنَوِّرَةِ الوقّادَةِ، التي تَفهمُ دَورَها وَما هو مطلوبٌ مِنها بيقظةٍ وعمق، هي سماتٌ أخرى لثقافـَةِ الإنتظـار.
إِنَّ هذه الثقافَةَ مستقلةٌ في مصادِرِها، فهي تستمدُّ منظومَتَها المعرفيّةِ مِنَ القرآنِ الكريمِ، وهدي الرّسالَةِ المُحمّديّةِ السّمحاء، ومنهجِ مدرَسَةِ العِترَةِ الطّاهِرَةِ (ع). وعلى ضَوءِ هذهِ المُرتكزاتِ، فإنَّ ثقافَةَ الانتظارِ بعيدةٌ كلَّ البُعدِ، عَنْ الخُرافاتِ والسُلوكيّاتِ الجَاهِلَة.
لا تَقبَلُ ثقافَةُ الانتظارِ بالدُّنيا وزخرفَتِها، كمشروعٍ بديلٍ عَنْ الاستراتيجيّةِ المَهدويّةِ المُبارَكَةِ. فالهدفُ ليسَ الفوزَ بالدُّنيا وملذّاتِها الآنيّةِ الزائِلَةِ، وإنّما الفوزُ بالنعيمِ الأخرويّ، ببركَةِ خِدمَةِ مَشروعِ الإِمامِ المُنتَظَرِ(عج). ومَعَ الأَسَفِ الشَديدِ، لَمْ يُقَدِّمْ لنا السّياسيّونَ المُنَادونَ بالمَشروعِ السِّياسِيّ الإِسلامِيّ في العِراقِ، النَموذَجَ الّذي يُحتَذَى بِهِ، على ضَوّءِ نظريّةِ بنَاءِ الأُمَّةِ في طوّرِ التّمهيد. فقدّموا نموذجاً يتعارضُ تماماً مع هذه الفِكرَةِ الأصيلَةِ.
هذه هي أهمُّ المحاور التي تُحدِّدُ ثقافَةَ الانتظارِ، غيّرَ أَنَّ البُسطاءَ مِنَ الناسِ، يُشوّهونَ هذه الثقافَة بدونِ قصدٍ مِنهُم. عَنْ طريقِ تَبنّي مَنهَج الإتّكالِ على الله سبحانَه، مِنْ دونِ تقديمِ المُقدِّماتِ العمليّة اللازمَةِ، التي تَسبِقُ عمليّةَ الإتّكال عليه سبحانّه. وإنّما استبدالُ العَمَلُ والكِفاحُ بالتوَسُلِ والدُّعاءِ، وهذا مطلوبٌ ولكنْ يَجِب أَنْ يكونَ مشفوعاً بالعَمل.