بالرغم من أن التطورات الحديثة في المنطق الصوري تلقي كثيراً من الضوء على طريقة استعمال مصطلح "حقيقة" في الأنساق الصورية (المنطق والرياضيات) وفي اللغات الطبيعية (الألسن المستعملة في التداول اليومي) ومع أن الحقيقة هي أحد الإشكالات الكبرى في مجال نظرية المعرفة وفلسفة العلم وأن فلسفة المعرفة تهتم إهتماماً بالغاً بالبحث عن حلول للعديد من المسائل الفلسفية المتعلقة بموضوع "الحقيقة" ، إلا أن الحقيقة كما نراها تدل على عدة معان ، منها الواقع في تعارضه مع الوهم.
من المعلوم بأن إعادة تعريف ما هو تاريخي وما هو سياسي في اللحظة الراهنة أمر ضروري، لإن الإستمرار في إنكار الحقوق المشروعة للشعب الكوردي دليل علي عدم تمكن الكثير من النخب الحاكمة والأطياف السياسية في العراق هضم المتغييرات وعدم استخلاصهم العبر و الإستفادة منها و عدم إدراكهم بعد بأن الدلائل کلها تشير الي ان وجوب الدولة الخاصة بالشعب الكوردستاني هو الحل لليوم و المستقبل. أما الواقع فأنه يثبت لنا بأن الدولة الكوردستانية باتت حقيقة دامغة ومٶكدة ، فللكوردستانيين في الإقليم بعد سيطرة قوات الجيش المتمثل بالبيشمرگه علي كافة المناطق الكوردستانية التي كانت خارجة عن إدارة حكومة إقليم كوردستان دولة قائمة بمٶسساتها ومصادرها الإقتصادية المستقلة ، بعد أن قامت أخيراً بتصدير نفطها و الحفاظ علي عائداتها لصالح مواطني إقليم كوردستان. كما يأتمر جيش هذه الدولة بأوامر سلطة الإقليم و يرفع علمه فقط. أما رئيس الإقليم ، فله دور في السياسية الخارجية يماثل دور رٶساء الدول.
عقب الأحداث الأخيرة في المحافظات السنية وإنسحاب الجيش العراقي منها نمت هناك فرصة تاريخية للكورد لإعادة المناطق الكوردستانية المقتطعة الي حضن كوردستان و إكتمال خريطة الإقليم. يجب الإقرار بأنها فرصة تاريخية لترسيخ المسؤولية الكوردية في المنطقة. فالكورد هم اليوم جزء من الحل لا المشكلة وسوف يكونوا في وقت قريب عنصراً مهماً لتقدم المسيرة الديمقراطية في المنطقة.
حكومة إقليم كوردستان المهيئة لتحديات العصر المتفاقمة أثبتت إتقانها للغة الشراكة والمداولة والتحول عما هي عليها للتعايش بأقل كلفة ممكنة ، تسلطاً وعنفاً وتفاوتاً وهي تعمل اليوم رغم كل الصعاب جاهداً علي إعلاء شأن "الهوية المفتوحة والغنية" لتمارس الصداقة مع جميع شعوب المنطقة و تستمر في تفعيل العملية السياسية والحل السلمي في العراق وهي رسمت وخططت سياسة جدية و أخوية تجاه الأقليات المتواجدة علي أرض كوردستان ووجدت آلية جديدة وعصرية للتعامل معهم كمواطنين يمتلكون كافة الحقوق السياسية والثقافية.
إن نشر الوعي السياسي لە أهمية كبيرة في بناء الأنظمة الديمقراطية واعتماد العقلانية والتفكير العلمي أساسا منهجياً لتنظيم التعايش في المجتمع وقبول الآخر. فالمسٶولية التاريخية تفرض علي المخلصين لكوردستان أن يلعبوا دوراً أساسياً في متابعة الظواهر السلبية التي يعاني منها المجتمع وايجاد الحلول والمعالجات الضرورية والبدائل لتلك الظواهر وفقاً لمعيار ومحددات المجتمع. وأن ضعف الوعي المجتمعي والسياسي تخلق أزمة الهوية و الإندماج الإجتماعي وأزمة العزوف عن المشاركة السياسية مما يٶدي في النتيجة الي عدم نضوج التجربة الديمقراطية والتخلف في بناء الدولة.
إن هوية دولة كوردستان المعاصرة ينعكس ويدل علي قدرة أبنائها علي الإبداع والتقدم والانفتاح علي العالم وثقافاته وعلومه وليس العودة إلي الوراء. فالجهاز الإداري اليوم يخضع لقانون موحد والمؤسسة العسكرية أو الجيش أثبتت بأنها مؤسسة ديمقراطية، و البيشمرگه برهنوا بأنهم يدافعون عن الوطن أو التراب وهذا ما بيؔن "الحس الوطني" لديهم.
لقد دمؔرت طروادة بخدعة لعبة من خشب ، ولم يلق أعداٶها فيها خائناً واحداً يفتح لهم أبوابها ، لأن مجتمعها كان مجتمع أناس يحبون الحياة ويتعاونون لأجلها. وشعب كوردستان اليوم هو مصدر مهم للسلطة وشريك كامل في تقرير السياسات العامة عبر ممثليه المنتخبين في المجلس الوطني للإقليم. والهدف من هذا هو خدمة المجتمع الكوردستاني وصيانة مصالحه والارتقاء بمستوى معيشته، وضمان كرامة أفراده وعزتهم ومستقبل أبنائهم، الذين نالوا في عهود الجمهوريات العسكرية جور الحکومات المستبدة ورضا الشعب الكوردستاني هو الحجر الأساس لشرعية سلطة الإقليم الكوردستاني.
لقد تغير وجه العراق والرهان هو إبتكار أساليب و وسائل ونماذج تستجيب للتحديات الجسيمة وتمؔكن من إيجاد أجوبة أو حلول أو مخارج ، فيما يخص المسائل والقضايا العالقة والمشكلات التي تستأثر بإهتمام كافة الأطراف والكيانات في المنطقة علي السواء ، لکي تكون إيجابية بناءة وفعالة ، بقدر ماتكون راهنة ، عالمية و كوكبية ، لتشكل إضافة قيمة علي الرصيد البشري.
وختاماً: "الشعب الكوردستاني المعاصر في أمس الحاجة التاريخية لقيم مطلقة جديدة لا يحدها زمان ومكان. وهذه القيم لم يعد بالإمكان أن تأتيه إلا من عالمه نفسه."
مقالات اخرى للكاتب