العراق تايمز ــ كتب كاظم فنجان الحمامي: في الرابع عشر من مارس (آذار) عام 1967 أطلق الرئيس الراحل عبد الرحمن محمد عارف بوجه شاه إيران كلمته الوطنية المدوية في العاصمة طهران على خلفية الطلب التوسعي الذي تقدم به محمد رضا بهلوي بإدخال تعديلات جديدة على حدود المناطق البحرية المتشاطئة بين البلدين عند مقتربات شط العرب، فرد عليه عبد الرحمن بعبارته الحاسمة الحازمة الجازمة المجلجلة، التي قال فيها:
(أن أرض العراق ومياهه وحدوده ليست عقاراً مسجلا باسمي، ولا ملكا صرفاً لعائلتي، ولا مقاطعة من مقاطعات أجدادي، ولا حقلا زراعياً من حقول عشيرتي، ولا إرثاً لأبناء قبيلتي، ولا غنيمة من غنائم أهلي، أنها ملك الشعب العراقي وحده، ولا يمكن التفريط بها، أو التنازل عنها، أو بيعها، أو تأجيرها، أو التلاعب بخرائطها، أو المقامرة بها أو المغامرة بها، أو المساومة عليها، أنها الواحة الفردوسية الرافدينية المقدسة، التي اختارها الله جل شأنه مهبطاً لرسالاته السماوية، ومثوى لأنبيائه، وصومعة لأئمته، ومنطلقاً لسلالاته البشرية. هي الأرض التي حملت شعلة الإنسانية والتحضر وطافت بها في أرجاء المعمورة، فلا أنا ولا غيري يمتلك حق التفريط بها وببحرها الإقليمي وممراتها الملاحية ومقترباتها المينائية). (1)
لم تنزعج إيران من صراحته ولم تتذمر من وطنيته، بل أصدرت طابعاً بريدياً للتعبير عن تكريمها واحترامها لرأي هذا الرجل الوطني الشريف، الذي لم يتنازل لها عن قطرة واحدة من مياه شط العرب، ولم يتنازل للكويت عن قطرة واحدة من مياه خور عبد الله. ولم يتنازل لتركيا أو سوريا أو الأردن أو السعودية عن ذرة واحدة من تربة العراق.
لم تنكمش حدودنا في زمنه مثلما انكمشت في الأزمنة اللاحقة، ولم تتقهقر مثلما تقهقرت على يد القيادات التي سارعت إلى إبداء التنازلات السخية عن منافذنا البرية والبحرية.
ربما لا يعلم عامة الناس أن معاهدة الجزائر، التي تنازل فيها العراق عن نصف شط العرب لإيران، تعد من أسوأ المعاهدات البحرية والسياسية في تاريخ كوكب الأرض. فهي معاهدة غبية جلبت لنا الويلات والمصائب والنكبات. جاءت من نطفة خبيثة تلاقحت في جحور الشياطين بين أوكار العهر السياسي، فحملت سِفاحاً في بطن الرذيلة حملاً مشوهاً. نما في غفلة من الزمن في أحشاء الشر، ثم ولد في حاضنات التآمر بعملية قيصرية أجراها طبيب معتوه في يوم نحس داخل عيادة الأبالسة، فنشأ هذا الكائن المسخ في الأوساط العبثية بصورته البشعة ليكدر حياتنا ويجلب لنا الهموم والأحزان منذ عام 1975.
معاهدة مريبة كانت هي السبب في استنزاف قوتنا وموت أبنائنا وإهدار ثرواتنا وتمزيق أوصال وطننا وتقطيع لحمتنا، وكانت هي السبب في اندلاع كل الحروب والمعارك والمواجهات العسكرية التي مر بها العراق منذ المصادقة عليها وحتى يومنا هذا، وكانت هي الجرح النازف في قلوبنا، وربما ستكون هي القرين الملازم لنا في مسيرتنا السياسية المتعثرة حتى قيام الساعة.
معاهدة عجيبة لم يسلم من شرها حتى الذين وقعوا عليها (محمد رضا بهلوي، وصدام حسين)، وحتى الشاهد الوحيد الذي شهد عليها (هواري بومدين)، فالأول مات غريباً بعملية جراحية غامضة، والثاني مات مشنوقاً، والثالث مات مسموماً بالثاليوم، لكنها ظلت كما هي حبر على ورق، ومافتئت تنذر بالشؤم والدمار، وتحمل بين سطورها المزيد من الكوارث والمصائب والنكبات.
لم يمتلك هؤلاء حكمة عبد الرحمن، الذي كان يدرك أن العراق العظيم لن يرحم الذين يخونون أرضه، ولن يرحم الذين يلوثون مياهه، ولن يرحم الذين لا يرحمون شعبه. وأن لعنة العراق ستطاردهم حتى لو كانوا في بروج مشيدة.
كان عبد الرحمن شديد الاهتمام بشؤون العراق البحرية، وكان يحرص أشد الحرص على حضور احتفالات الكليات البحرية، حتى أنه أرسل نجله الأكبر (قيس) لدراسة العلوم العسكرية في أرقى الجامعات الملاحية، وكان يزور الملاحين والمهندسين البحريين في قاعاتهم الدراسية في روسيا ومصر والأقطار الأخرى، ويوليهم الرعاية الأبوية التامة.
من كتاب (عراق بلا سواحل) الصادر في البصرة عام 2013 عن مؤسسة الغدير للطباعة والنشر، صفحة رقم (7).