الهدف الأساسي للبنك المركزي هو العمل على تحقيق الاستقرار في الأسعار المحلية وسعر صرف العملة الأجنبية، وليس توزيع المال على التجار عن طريق مصارفهم كما يتصور الكثيرون الذين أعطوا الانطباع بأن ما يسمى بالمزاد هو عملية تجارية وليست سياسة نقدية.
إن استقرار الأسعار، أية أسعار، يتطلب ببساطة أن يقابل العرض كل الطلب، وفي مجال العملة الأجنبية أن يقابل العرض من العملة الأجنبية كل الطلب عليها، وفي ضوء ذلك يتحقق سعر صرف معين يمكن تغييره حسب ظروف التضخم أساسا. هذا يعني أنه يجب أن يُشبع الطلب على العملة الأجنبية بالكامل ( بعد التأكد من أن البنك المركزي قد تسلم شهادة المصارف بخلو عملياتها من غسل الأموال، وأنه ليست هناك مخالفات مصرفية تمنع المصرف المعني من دخول مزاد العملة الأجنبية)، ومقابلة الطلب بالكامل ستمنع من خلق سوق آخر للصرف، وبالتالي سيضمن استقرار سعر الصرف وعدم تعدديته.
هذا الأسلوب، أي إشباع الطلب وما يعنيه من تدفق للعملة، لا ينطوي على تهريب أو هدر للعملة. كما انه لا يندرج ضمن الإهمال لأنه بالأساس قد تمت مبادلة الدولار بالدينار ولأنه يشبع الطلب.
إن القابلية التي نملكها في إشباع كل الطلب متأتية من الاحتياطي الكبير الذي بنيناه في البنك المركزي على مر السنين. ولولا هذا الاحتياطي لاضطررنا إلى تخفيض سعر صرف الدينار وتغييره على الدوام ،وهذا ما يؤدي إلى فقدان سعر الصرف واستقراره.
وقد يكون طلب بعض المصارف من العملة الأجنبية كبيرا جدا وناتجا عن إيداعات كبيرة من الدنانير العراقية. إننا نفترض أن عدم مقابلة هذا الطلب سيؤدي إلى هزة في الأسعار وسيخلق سوقا آخر، لذا فإن المعلومات عن تفاصيل هذا الطلب يجب أن تقدم، بعد أن تؤدي مهمتها في سوق أو مزاد العملة، إلى دائرة غسل الأموال التي يجب أن تتابع هذا الموضوع بجدية.
أعطانا كبر حجم الاحتياطي المرونة الكافية لاستخدام السياسة النقدية في محاربة التضخم الذي كان قد وصل إلى حوالي 50% في 2004 فبدأنا برفع سعر الدينار تجاه الدولار في تلك السنة حتى نشجع التدفقات إلى الخارج ،كالاستيرادات وغيرها، وبالتالي قلل ذلك من الضغوط على السوق الداخلية. وفي نفس الوقت رفعنا أسعار الفائدة حتى تنتقل الأموال إلى السوق المالية من السوق الحقيقية. إذاً فان الاحتياطي هو الذي يضمن استقرار سعر الصرف، ولهذا لا يجب أن يجري التصرف به لغير هذه الأغراض.
كما ذكرنا فإن البنك المركزي يحرص على أن تتم تلبية الطلب على العملة الأجنبية بالكامل وأن يستقر سعر الصرف. إذا لم نفعل ذلك وبعنا أقل من الطلب فسيرتفع سعر الدولار في السوق ،وهذا يتعارض مع سياستنا النقدية ولكنه قد يرضي البعض بأن البيع أو “الهدر” سيكون أقل. ولكننا بالتأكيد سنتخذ الإجراء الصحيح الذي يحقق هدف السياسة النقدية والاستقرار. كما ذكرنا أيضاً فان القضية بالنسبة للبنك المركزي هي استبدال عملة عراقية بعملة أجنبية يمكن استخدامها في شتى الأغراض. أما الاستيراد الفعلي فانه لا يقع ضمن مسؤولية البنك المركزي، ولا أعتقد ان هناك بنكا مركزيا في العالم يتعامل باستيراد السلع!
إن البنك المركزي يقابل الطلب على الدولار لغرض استقرار الأسعار، الأمر الذي يعمل على تطبيق الهدف الأول له. ويجد موظفو البنك أنفسهم أمام مشكلة، فإذا حرصوا على مقابلة الطلب فان تصرفهم هذا قد يفسر بانه نوع من الهدر وإذا لم يقابلوا الطلب فان السعر سيختل وتتم مخالفة القانون فما هو الحل؟ بالنسبة للبنك المركزي الحل هو في اتباع ما يمليه عليه قانونه وتطبيقات السياسة النقدية.
تبدأ عملية المزاد وآليتها بسحب العملة العراقية وتخفيف ضغوطها على السوق. ويجري ذلك عن طريق المبادلة النقدية (دينار بدولار)، كما ذكرنا سابقا فان البنك المركزي عن طريق سوق أو لجنة المزاد لا يتابع الدولار عندما يغادر البنك ،إلا أنّ دائرة غسل الأموال المستقلة إداريا هي التي يجب ان تقوم بهذه المتابعة، خاصة انها تملك علاقات وثيقة مع دوائر غسل الأموال في الدول الأخرى والدول المجاورة. والدولار عندما يغادر البنك لا يمول العمليات التجارية فقط بل هو يستخدم في تمويل كل المدفوعات الدولية ضمن ما يسمى بميزان المدفوعات الذي يصور كل العلاقات الاقتصادية الدولية للعراق مع العالم كالدفع مقابل الخدمات ومقابل عمليات الاستثمار في الخارج.
لاشك في أن أكثر الطلبات على العملة الأجنبية تتعلق بالاستيراد، والبنك المركزي يبعث بنسخة من طلب المستوردين إلى الجهة القطاعية أو إلى وزارة التجارة لمتابعة الوصول إلى الرقم النهائي للاستيراد الذي يدون في دائرة الكمارك العراقية. وهكذا كما ذكرنا فإن عمل البنك المركزي نقدي ينتهي بإعطاء الدولار، ولكنه بالنتيجة يتابع تطور الاستيرادات من الدوائر ذات العلاقة لأهميتها في ميزان المدفوعات الذي يعده البنك المركزي.
بحسب المادة 23 من قانون البنك المركزي يتمتع موظفو البنك بالحصانة من الإجراءات القانونية شأنهم في ذلك شأن موظفي البنوك المركزية المحترمة في العالم. ويعوض البنك الموظف عن أية تكاليف قضائية. إن هذه الحصانة متأتية من أهمية عمل البنوك المركزية وخطورته وتعامله بالأمد المباشر والقصير وكون هذه البنوك هي المقرض إلى المصارف في حالة الأزمات أو ما يسمى بمقرض الملجأ الأخير للمساعدة على إنقاذ الوضع الاقتصادي.
يقوم البنك الآن ببيع كميات كبيرة تتراوح بين 200 و 300 مليون دولار يوميا، وهذا يتجاوز ما كان يبيعه البنك في فترة الإدارة السابقة. فلماذا لا يكون هذا نتيجة لإهمال متعمد؟ إن الحل الناجع لقضية المزاد هو في تطبيق البيان رقم 19 الذي صدر في 1/10/2012 ونتج عنه استقرار في سعر الصرف، إذ بلغ السعر 1196 ديناراً للدولار.
إن البنك المركزي سمح في الوقت الحاضر للمصارف بأن تساهم معه في تحديد سعر الصرف، وسمح بزيادة المبالغ النقدية بشكل كبير، وخطورة هذا الوضع تتأتى من صعوبة متابعتها وبالتالي استخداماتها، من دوائر غسل الأموال.
لم تهمل إدارة البنك المركزي السابقة قضية غسل الأموال ،فكل طلبات التحويل من المصارف، كما أسلفنا، تذهب نسخة منها إلى دائرة غسل الأموال مباشرة، وهذه الدائرة هي التي يجب ان تقوم بالمتابعة بموجب قانون غسل الأموال النافذ لعام 2004 (المادة 12 الفقرة 4 التي تنص على أنه إذا شك مكتب استخبارات غسل الأموال “شكا معقولا في أن معاملة ما تم إجراؤها أو الشروع فيها تنطوي على أموال مستمدة من أنشطة غير مشروعة أو من غسل الأموال أو أموال يقصد بها أن تستخدم في تمويل الجريمة أو أموال يملك عليها تنظيم إجرامي حق التصرف ، أو تمويل الإرهابيين ، أو أن المعاملة يقصد بها على أي وجه آخر خدمة غرض غير قانوني ، يقوم فورا بإخطار سلطة الادعاء والتحقيق المختصة).
وقد طلبت إدارة البنك السابقة من مدير مكافحة غسل الأموال في البنك في 24 آب 2012 تقريرا عن الحالات المشتبه بها، وأجابنا المدير في حينها (خالد شلتاغ) بوجود ثلاث حالات فقط، وهي حالات تم اكتشافها في عهد المدير الذي سبقه وتمت إحالتها إلى لجنة الغرامات في البنك لدراستها وفرض الغرامات بشأنها، أي أنه تم اتخاذ إجراءات بشأنها. هذا يعني أن مكتب مكافحة غسل الأموال برئاسة السيد شلتاغ لم يؤشر ولم يرفع إلى الإدارة العليا أية حالة أو قضية فيها شبهة غسل للأموال أو تمويل للإرهاب خلال فترة سنتين قضاها المدير في إدارة المكتب.
أما في ما يتعلق بتقرير ديوان الرقابة المالية الصادر في 25/9/2012 فإنه لم يصل إلى أي استنتاج بخصوص هدر المال العام وإنما بيّن أنه غير مطمئن لآليات مزاد العملة الأجنبية بالرغم من أنه كانت هناك شركات تدقيق دولية أخرى تدقق عمل وحسابات البنك ،مثل
Ernst and Young and KPMG))، وقد أشرت هذه الشركات بعض الملاحظات التدقيقية وتمت مناقشتها وتسويتها بشكل هادئ مع الدوائر المعنية في البنك.
وقد بين الديوان أيضا أن الاستيرادات لم تكن إلا نسبة قليلة من المبلغ الممنوح. ولابد من أن نبين أن هذا أمر لا يتعلق بالبنك المركزي لأنه مؤسسة نقدية وليست تجارية . أي انه ضمن مبادئ البنك المركزي فإن الهدر يجب أن يحدد ضمن السياسة والعمليات النقدية ،أي ضمن عملية تحويل العملة العراقية إلى عملة أجنبية وضمن عملية تحديد سعر الصرف وليس ضمن العمليات التجارية ( البنك المركزي يتعامل بصيرفة الدينار إلى دولار وليس بصيرفة الدينار إلى سلع وبضائع) . إن الأمانة الوظيفية تقتضي من الإدارة الحالية أن توضح هذه الحقائق الأساسية إلى الجهات ذات العلاقة فليس من العدالة أن يحاسب الموظف لأنه لم يكن هناك استيراد، فالاستيراد ( وهو سياسة تجارية وليست نقدية) تسجله الجهات الأخرى وليس البنك المركزي.
إن السياسة النقدية هي عملية اقتصادية وليست عملية قانونية أو تجارية ،لذلك فهي تتحمل الكثير من الاجتهادات والآراء حول تأثير تطورات واتجاهات الاقتصاد خاصة التضخم وارتفاع الأسعار. ونود أن نبين هنا أن محكمة الخدمات المالية والمقرة ضمن قانون البنك المركزي أكدت على عدم اختصاصها بقضايا السياسة النقدية وسياسات الصرف الأجنبي (انظر القسم الثاني عشر من قانون البنك المركزي ، محكمة الخدمات المالية المادة 63 الفقرة 4). إن إشباع الطلب على العملة الأجنبية بالكامل شرط أساسي لاستقرار سعر الصرف وتأكيد على الالتزام بقانون البنك. قد لا نشبع كل الطلب وبالتالي (لا نهدر) المال العام ولكن من المحتمل أن تتم محاسبتنا على عدم تحقيق الاستقرار في السعر والسوق.
عمل البنك المركزي يجب أن ينصبّ على منع حصول سوق موازية للعملة أو أسواق متعددة ، وتعدد أسعار الصرف أمر يخالف قانون البنك المركزي لأنه يتعارض مع مهمة تحقيق الاستقرار في الأسعار المحلية. إن الفرق بين سعر البنك وسعر السوق يجب ألاّ يتعدى 2% حسب اتفاقية صندوق النقد الدولي التي وقعها العراق عام 1945.
نستطيع أن نستنتج في الختام انه عندما يقوم البنك المركزي بمبادلة الدينار بالدولار أو بيع الدولار بشكل حر كما هو الحال في العراق فإن البنك المركزي يأخذ عملة عراقية مغطاة بشكل كامل باحتياطي العملة الأجنبية وذلك حسب الميزانية العمومية للبنك فلماذا يعتبر المحللون أن الدينار يتمتع بقيمة أقل أو هو أقل شأنا من الدولار؟ إذا كان الدينار مغطى بنسبة 100% بالعملة الأجنبية ويتمتع باستقرار على الأمد الطويل وهناك بنك مركزي يراقب بشكل قريب كل تطوراته ويحافظ على استقراره ويتصدى لتقلباته فإن هذا الدينار يكون كالعملة الصعبة أي انه عندما نبيع الدولار نتسلم شيئا يوازيه في القوة، فأين الهدر إذاً؟. البنك المركزي يحافظ على الاستقرار النقدي عن طريق تعويم الدينار في السوق أساسا مع مراقبته بغرض إدارته كلما تطلب الأمر ذلك كي يخدم الاقتصاد الوطني، أي أننا نتبع نظام التعويم المدار، وبسبب الاحتياطي الكبير يحول هذا التعويم إلى حالة استقرار. إننا نكون أمام هدر إذا لم نتسلم عملة عراقية عندما نبيع الدولار. لاشك في أننا سنعاني من الهدر وانخفاض العملة لو فقد الدينار ارتباطه المستقر بالدولار ولو لم تكن هناك سياسة نقدية تراقب تطوراته فهذا سيؤدي إلى انخفاض الدينار وبالتالي سنحتاج إلى دنانير أكثر لشراء نفس المقدار من الدولار مما سيؤدي إلى نوع من الخسارة أو الهدر. لذلك فإن البنك المركزي يحرص على الإبقاء على علاقة خالية من التقلبات مع الدولار كلما أمكن ذلك. كما أنه يحرص على تقليل الفرق بين السعر الرسمي وسعر السوق الذي كما ذكرنا يجب ألا يتجاوز 2%. لقد نجحنا في الحفاظ على القوة الشرائية للدينار واستقرارها بالرغم من مشاكل الاستقرار السياسي والتنفيذ غير الكفوء للميزانية الاستثمارية الحكومية. عندما نجابه بهذا التنفيذ غير الكفوء فعلى السياسة النقدية أن تتصدى لذلك وتعيد الاستقرار الاقتصادي ،الأمر الذي سينعكس بلا شك على تركيبة وشدة السياسة النقدية وكفاءة التنفيذ لمناهج الاستثمار.
في السابق، خاصة أيام الحروب والحصار، لم يكن هناك استقرار نقدي بسبب الإصدار النقدي المنفلت، وبالتالي لم تكن هناك عملة مستقرة، وكان الدينار على الدوام سلعة متدنية جدا بالنسبة للعملات الأجنبية. إلا أنه وبعد تطبيق سياستنا الجديدة بعد 2003 اختلف الوضع جذريا وأصبح هدفنا الحفاظ على استقرار العملة واستمرار تغلغلها إلى العالم من خلال الدولار. وهذا ما تحقق وكنا مصرين على ديمومته، وكان أسلوب المزاد أو بيع وشراء العملة الأجنبية من أهم سياساتنا النقدية في هذا المجال. كما أننا لم نهدر المال العام لأننا بعنا دولارا و تسلمنا بدله دينارا مستقرا ورصينا وذا قيمة يمكن تحويله إلى الدولار في أي وقت من دون صعوبة. لكننا بالطبع سنظل نحتاج إلى استقرار اقتصادي يعمل على تحقيقه البنك المركزي من خلال سياساته (ليس فقط مزاد العملة الأجنبية) وإلى إنفاق عام يتسم بكفاءته وإنتاجيته. أي أننا سنظل نحتاج إلى التنسيق بين الحكومة والبنك المركزي.
أما إنفاق الدولار واستخدامه في الاستيراد مثلا فهذه قضية لا تتعلق بالبنك المركزي أو لجان المزاد فيه حيث يجب أن تجري متابعتها من قبل دائرة مكافحة غسل الأموال التي هي بالرغم من تبعيتها للبنك فإنها مستقلة في عملياتها ولها قانونها الخاص.