اشرنا في الحلقة الثانية الى ان الشخصية السياسية العراقية تعاني من عقد نفسية..وها نحن نوجز اهمها بالآتي:
1.عقدة الخلاف مع الآخر.
كان لدينا شك يتاخم اليقين أن الشخصية العراقية أكثر ميلا الى الخلاف مع الآخر منه الى الاتفاق. وتحول هذا الشك الى يقين بعد أحداث السنوات التي تلت عام 2003 ، فرحت أبحث عن اسبابه فوجدت أن هذه الصفة ليست من صنع حاضر قريب، انما تعود الى تاريخ يمتد الاف السنين. وانها ليست ناجمة عن سبب بعينه ( القول ان العراقيين جبلوا على هذه الصورة مثلا ) انما عن شبكة معقدة من الأسباب تفاعلت فيما بينها فأنتجت الشخصية العراقية بهذه الصورة .وقبل استقصاء عدد من هذه الاسباب اودّ ذكر معلومة قد تبدو جديدة للبعض.
هنالك نظرية في الشخصية تسمى النظرية التطورية Evolutionary ترى أن المورّثات " الجينات" السلوكية تخضع لقانون الانتخاب الطبيعي فتعمل – عبر التاريخ التطوري للانسان -على تقوية مورّثات "جينات" سلوكية معينة واضعاف مورّثات اخرى (مقارب لقانون دارون :البقاء للأصلح). وهذا يعني أن الأحداث التي عاشها الانسان عبرتاريخه التطوري تدخلت في عمل المورّثات "الجينات " بثلاث صيغ : تقوية مورّثات معينة، واضعاف أخرى، ودثر أخرى.
تأسيا على ذلك فاننا لسنا فقط نتاج تكويننا البيولوجي الخالص،انما ايضا نتاج ما صنعته الأحداث من تأثير في مورّثات " جينات " أسلافنا العراقيين. ولك أن تقول : ان " جيناتنا " الحالية مشّفرة أو مسجّل عليها الأحداث التي عاشها أجدادنا، وأننا نقرأ عناوين هذه الأحداث ونرى صورا منها عبر سلوكنا وتصرفاتنا.
وهنالك مؤشر تاريخي آخر..ذلك اننا اذا قارنا بين اسلافنا العراقيين والاسلاف المصريين زمنئذ نجد ان اسلافنا دنيويون اكثر فيما اسلاف المصريين أخرويون اكثر. فاسلافنا عدّوا الموت نهاية بشعة وشرّا عظيما..والعالم الآخر مكانا كئيبا موحشا ،فيما اتسم موقف المصريين القدماء من الموت بالسكينة والاطمئنان وانه "عطر فواح كزهرة اللوتس" على ما يصفون!. وكانت لديهم قناعة راسخة بانهم سوف يبعثون ويعيشون الى الابد حياة سعيدة يمارسون فيها العمل الزراعي النبيل!.وهذا يعني سيكولوجيا ان الانسان الآخروي يميل اكثر الى الزهد بالدنيا والتسامح مع الآخر،فيما الانسان الدنيوي يميل الى الخلاف مع الآخر لاسيما اذا تعلق الامر بالسلطة والثروة.
قد يبدو هذا التحليل للبعض مبالغ فيه،لكن علم النفس التطوري يرى ان السلوك اذا تكرر عبر اجيال فانه يجري تشفيره وراثيا ويصبح خاصية ثابتة قي شخصية الانسان.
2.عقدة تضخّم الأنا.
" تضخّم الأنا " غير " قوة ألانا " ،فالثانية حالة صحية نابعة من الثقة بالنفس والتقدير الموضوعي ـ الواقعي لقدرات وقابليات صاحبها،ومعبّرة عن الاعتزاز الإيجابي بالنفس واحترام الذات.
أما " تضخّم الأنا " فهو حالة عصابية " مرضيه " لها أسباب متعددة من قبيل تراكم الشعور بالاضطهاد والاغتراب. ولكن العوامل المؤثرة والخفية في شخصية " الأنا المتضخم " إنها تجمع صفات في " توليفة " من ثلاث شخصيات مختلفة هي: النرجسية والتسلطية والاحتوائية. فهي تأخذ من الشخصية النرجسية حاجتها القسرية إلى الإعجاب..أي إنها تريد من الآخرين أن يعجبوا بها بالصورة التي هي تريدها، وأن لا يتوقفوا عن المديح والإطراء،ويسعى صاحبها الى ان يكون بطلا بعيون جماعته. وتأخذ أيضا من خلال التظاهر بامتلاكه قدرات فريدة.
ويأخذ صاحب " الأنا المتضخّم " من الشخصية التسلطية، انفعالاتها الغاضبة واندفاعيتها، وتصنيفها الناس بثنائيات، في مقدمتها ثنائية الأصدقاء مقابل الأعداء،أي من كان معي فهو صديقي وما عداه فهو عدّوي، وتصرفها بالتعالي والعجرفة نحو من هم أقل منه منزلة.وتأخذ من الشخصية الاحتوائية السعي إلى السيطرة على الآخرين واحتواء وجودهم المعنوي وأفكارهم، سواء بالإبهار أو بأساليب درامية أو التوائية،اوبطرح نفسه كما لو كان انسكلوبيديا العارف بكل شيء.
ويتباين وجود هذه الخصائص وشدتها من شخصية سياسية عراقية الى اخرى،وان حاول البعض من القادة السياسيين اظهار تواضع في موقف يكشف نفسه في مواقف أخرى انه مصطنع.
وثمة معلومة تاريخية لها علاقة بالموضوع، هي ان جدنا السومري كان الوحيد في زمانه الذي يعدّ نفسه ابنا لألهه الشخصي وليس عبدا له ،بعكس باقي الاسلاف زمنئذ حيث كان الفرد فيها عبدا لألهه..وربما كانت هذه احد أسباب (أنفة ) العراقي و(تضخم أنا) السياسي العراقي!
3. عقدة التعصب لــ" الهوية ".
يتداول السياسيون مفردة "الهوية" كما لو انهم يحملون عنها مفهوما مشتركا محددا وواضحا فيما يشير واقع الحال الى انهم يختلفون في دلالاتها ومعانيها،وما اذا كانت نوعا واحدا بانتماءات متعددة ام عدة انواع..وعليه ينبغي توضيح اربع حقائق:
الاولى:ان هوية الشخص هي التي تحدد اهدافه وسلوكه.
الثانية: ان الشخص يحمل اكثر من هوية في آن واحد:(عشائرية،مذهبية،دينية،وطنية...)
الثالثة:في حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي تكون الهويات او الانتماءات الفرعية للهوية بحالة ركود في داخل الفرد..ويغلب على الجميع الشعور بالهوية الوطنية (الانتماء للوطن).
الرابعة: حين يشعر الانسان بخطر فانه ينحّي كلّ هوياته ويتماهى "يتوحد" مع الهوية التي تتعرض الى التجريح او المظلومية.
ان لكل فرد الحق في الاعتزاز بهويته القومية،الدينية،المذهبية..شرط ان لا يستعلي بها على الهويات الأخرى.والذي حصل بعد التغيير ان الشخصية السياسية العراقية فعّلت الهويات الفرعية بعملية سيكولوجية افضت الى تعصب قائم على تقسيم الناس الى مجموعتين ( نحن) و(هم)..جعل الجماعة التي في السلطة لا تتحسس معاناة الجماعة الأخرى ومظلوميتها ولا تستمع الى شكواها.ثم جرى تصعيد لهذا التعصب اوصله الى ما يصطلح عليه بصراع الهويات القاتلة..كان اقبحها (أخذ الثأر) بمفهوم قبلي تبين انه ما يزال له الدور الفاعل في بطش الآخر بالآخر في اوقات الأزمات وصراع الهويات.
وتبقى عقد اخرى في الشخصية السياسية العراقية اهمها:الحول الادراكي..اي تضخيم ايجابيات الجماعة التي تنتمي لها وغض الطرف عن سلبياتها، وتضخيم سلبيات الجماعة الاخرى وغض الطرف عن ايجابياتها،والعناد العصابي المحدد بالافتقار الى مرونة التفاوض الايجابي،والاسقاط..اي ترحيل اسباب الازمات والتقصير الى جماعة اخرى مع ان جماعته والأخرى شركاء في تلك الاسباب.
وتبقى ثمة ملاحظة
قد ينزعج السياسيون من تحليلنا هذا لشخصياتهم ،ولهم نقول:
ما من انسان يتمتع بصحة نفسية كاملة ولكل منّا عقده،غير ان جسامة وكارثية الاحداث اصابت كلّ الشخصيات السياسية العراقية بتلك العقد النفسية،والاختلاف فيما بينها هو في حدّة هذه العقدة او تلك في هذه الشخصية او تلك..وان الوعي بها يمنح صاحبها القدرة على المصالحة مع الذات والآخر..وأن من ينكرها فيه هو أبأسهم حالا!.
اخيرا.
ان مهمتنا ،نحن علماء النفس والاجتماع،هي تقديم النصيحة..فان اخذوا بها فذاك ما نتمناه وان تجاهلوها..يكفينا تبرئة الذمّة..مع خالص تمنياتنا للجميع بالموفقية.
مقالات اخرى للكاتب