كل مجتمع يمتلك ثقافة تمثل حصيلة عوامل بيئية, جيوسياسية وسياسية, الثقافة المشتركة للمجتمعات العراقية كذلك هي حصيلة لتلك العوامل المتداخلة والمتراكمة.
غالبية المجتمعات العراقية* تعيش قلق موروث ومتكدس نتيجة لتأثير كل من البيئة الطبيعية والجغرافية السياسية, عوامل لم تدعه يطور سياسة لإدارة شؤونه وتطوير مدنيته نحو الحضارة و/أو إيجاد تقنيات تحل المشاكل البيئية والجيوسياسية. في يأتي بعض العوامل التي تعد مشاكل خالدة وجوهرية لدى معظم المجتمعات العراقية:
1. البيئة الطبيعية (الماء)
النهر في العراق هو مصدر الماء الرئيس, وفي العراق فإن الماء كما هو مصدر الحياة, الخصوبة والنماء, هو مصدر القتل والخراب (مصدر طبيعي لإزدواجية الشخصية العراقية). النهر في العراق يقتل ويخرِب بطريقتين:
أ. عندما يفيض النهر موسمياً (في أيام الخير) فإنه يغدر بأولئك الذين إلتجئوا إليه مستجدين بعضاً من خيراته قاتلاً بعضاً منهم, مشرداً البعض الآخر وقاضياً على مكتسبات الجميع! كما حدث في فيضان بغداد عام 1954 (قد يكون هذا الخطر دائم الحضور في ذهن العراقي كلما فكَر في التوسع في الزراعة أو البناء, وسبباً لجنوحه نحو الربح السريع).
ب. في مرحلة متكررة في تأريخ طبيعتنا العراقية يكون الفيضان شديد لدرجة أن يغير النهر جزء من مساره, وهذا قد يكون كارثياً أكثر من الفيضان ذاته, فتغيير المسار يقضي على أهم القواسم الحضارية المشتركة للمجتمع ألا وهي المدنية, أذ أن المدينة أو القرية القائمة على نهر ما تموت تدريجياً إذا ما أصبحت في يوم ما لتجد نفسها على بعد 5 كيلومترات عن مجرى النهر. إن من الصعب لمجتمع فقد مدنيته القائمة بجانب مصدر الحياة (النهر) أن يعيد بنائها قبل أن يتلاشى في مدنيات أخرى مجاورة. نجد اليوم مدينة بابل التأريخية التي بنيت على نهر الفرات قابعة في بقعة تبعد أكثر من 15 كيلومتر عن المسار الحالي لنهر الفرات.
2. الجغرافية السياسة
للعراق سور منيع من الشوكولاتة على تخومه الشرقية يجمعه مع جاره الأيراني, سور إعتاد جارنا على إلتهامه ومن ثم الدخول دون إسئذان لطلب المزيد, حدث متكرر عبر تأريخنا المشترك الطويل نسبياً. عادة ما يسقط "المجتمع العراقي" في إحدى مطبات التأريخ وهو مرفوع الرأس, في بعض الأحيان عند سقوطه يكون الجار صاحياً ليتلاقنا في سقطتنا كما تتلقى الكواسر ذلك المتخلف عن القطيع. ألا نصحو في يوم ما لنجد بحراً جديداً يفصل الجارين بسلام! أو أن يبتلعنا البحر فنحيا كما الأسماك, حينها لن أكون خائفاً, فسوف نتأقلم كما تتأقلم كل الكائنات مع البيئات الجديدة, على الأقل هنالك بيئة جديدة ومشاكل جديدة لنتعامل معها ولن نشعر معها بالملل والإحباط قبل ألف سنة قادمة.
3. السياسة
العراق بقعة متعدد الأعراق, الأديان والطوائف, تلك المجموعات البشرية القاطنة في العراق تربطها علاقات مائعة تتغير حالتها (أي العلاقات) مع تغير المصالح والمخاوف الفئوية لكل مجموعة ولتتغير بدورها مواقف كل مجتمع عراقي من الآخر, فمع كل الإمبراطوريات, الممالك والدول التي نشأت على أرض العراق لم تتوحد مجتمعات العراق إلا بالقوة والتي مع زوالها تعود الهوية الفئوية إلى السطح.
إن عامة العراقيين في أيامنا هذه يحلمون بمؤسسة أفضل لتدير بلدهم, لكن معظمهم يراها في مخيلته مؤسسة تلائم مقاساته الشخصية. ما يحتاجه العراقي هو منظومة تذوب فيها التكتلات المختلفة ليبرز فيها الفرد المتمايز مجتمعياً والمسطّح قانونياً.
يستثني المقال المجتمعات العراقية التي لا ينطبق عليها العاملين 1 و 2 أعلاه.
مقالات اخرى للكاتب