ترتبط فكرة التضامن الدولي بفكرة لصيقة بها، وهي التعاون الدولي، على نحو عضوي، لدرجة لا يمكن فصل الأولى عن الثانية، كما لا يمكن تصوّر الثانية دون الأولى، وهكذا وجد المفهوم المعاصر لفكرة التضامن الدولي صداه ورجعه في التعاون الدولي، لكن المفهومان يختلفان من جماعة إلى أخرى ومن تيار فكري وسياسي إلى آخر، ومن دولة أو مجموعة دول إلى أخرى، تبعاً لمصالح الفئات والهيئات والدول.
وقد كان مفهوم التضامن الدولي والتعاون الدولي، محط نقاش وجدل طوال يومين في إطار ورشة عمل نظمتها الأمم المتحدة في الدوحة وضمّت نحو 20 ممثلاً عن الدول لغربي آسيا والباسك، وخبراء دوليين تابعين للمفوضية ومستقلين، وكان لي شرف المشاركة في هذا المحفل الدولي المهم، الذي استهدف بلورة رؤية لإصدار إعلان Dec laration عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص حقوق الشعوب والأفراد في التضامن الدولي.جدير بالذكر إن موضوع الحق في التضامن الدولي كان قد أقرّ في القرار رقم 55 للجمعية العامة للأمم المتحدة العام 2005 وذلك بمراعاة جميع مؤتمرات القمة العالمية الكبرى التي عقدتها الأمم المتحدة وغيرها، وكلّفت السيدة فرجينيا داندان Virginia Dandan في يونيو/حزيران 2013 للمضي في التحضير لذلك.
وإذا كان هناك تاريخ مُختلِف للتضامن الدولي، فإن المشروع الجديد يقدّم فهماً جديداً لفكرته، يعتمد على تلاقي المصالح والمقاصد والأعمال بين الشعوب والأفراد والدول والمنظمات الدولية من أجل الحفاظ على استمرارية المجتمع الدولي، وتحقيق الأهداف الجماعية التي تتطلّب تعاوناً دولياً وعملاً مشتركاً، بما يعزز السلم والأمن الدوليين وحقوق الإنسان (المادة الأولى – الفقرة ألأولى من المشروع) وينبغي أن يكون التضامن الدولي واضحاً فيما تتخذّه الدول من إجراءات جماعية تؤثر إيجاباً على ممارسة الشعوب والأفراد لحقوق الإنسان (الفقرة الثانية).
إن فلسفة التضامن الدولي تعتمد على قيمة إنسانية مضافة لتعزيز التوجّه الدولي بشأن احترام حقوق الإنسان، كما إنها يمكن أن تندرج في القواعد الآمرة في القانون الدولي Jus Cogens خصوصاً إذا ما أصبحت قاعدة التضامن الدولي، جزء من اتفاقية دولية شارعة، أي منشئة لقواعد جديدة أو مثبتة لهذه القواعد، وهو الأمر الذي يمثّل المشروع الحالي خطوة أساسية على طريقه.
وإذا كانت قاعدة حقوق الإنسان التي وردت في ميثاق الأمم المتحدة سبع مرات لم تصبح كقاعدة آمرة في القانون الدولي، إلاّ في العام 1975 بإقرار وثائق مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي، بحضور 33 دولة أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا، والتي جاء تطبيقها بعد انتهاء الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل إلى شكل جديد بانهيار الكتلة الاشتراكية، فإن التضامن الدولي يمكن أن يندرج في الجيل الرابع لحقوق الإنسان.
والجيل الرابع هو الذي يقوم على الحق في التعدّدية والتنوّع والهوّية ذات الطابع الخصوصي، وذلك بعد ثلاثة أجيال مهمة، فالجيل الأول جاء بالحقوق المدنية والسياسية بشكل عام، واغتنت هذه الحقوق بالعهد الدولي الخاص بها في العام 1966 والجيل الثاني بدأ بتعميق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تكرست في العهد الدولي الخاص بهذه الحقوق، وقد دخل العهدان حيّز التنفيذ في العام 1976 فإن الجيل الثالث مهّد لمثل هذا التطوّر، حين أقرّ الحق في التنمية والحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية – التقنية.
تاريخياً كان التضامن الدولي يأخذ بُعداً آيديولوجياً وسياسياً بالدرجة الأولى، ولاسيّما خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى حين انقسم العالم إلى معسكرين أساسيين، هما الاشتراكية والرأسمالية بنجاح ثورة اكتوبر في روسيا العام 1917 ويسعى أحدهما لإلغاء الآخر، وبعد الحرب العالمية الثانية تعمّق مثل هذا الانقسام، خصوصاً بانفراط الحلف المعادي للنازية والفــــاشية، وكان التضامن الأممي حسب الاشتراكية تعبيراً عن التضامن مع الطبقة العاملة والشعوب من أجل تحرّرها وانعتاقها وتخلّصها من الاستغلال، في حين وجدت الرأسمالية تعبيرها عن التضامن في إطار حلف الناتو للقضاء على الاشتراكية، ومن أجل فرض هيمنتها على العالم.
أما على المستوى القومي، فهو التضامن من أجل أهداف قومية مشتركة، مثلاً الوحدة العربية أو الألمانية أو الكردية أو الكورية أو الفيتنامية أو غير ذلك، فيما يتعلق بالأمم المجزأة، أو التي عانت من التقسيم والتشطير، وكذلك من الاحتلال والعدوان واقتطاع الأراضي.
ويعني التضامن الدولي في المفهوم الديني، الإسلامي أو المسيحي، سواءً كان عاماً أو اختص بطائفة، ” التضامن الديني” لأهداف مشتركة أساسها التوجّه الديني أو الطائفي أو المذهبي، على مستوى الشعوب أو الأفراد. وهناك التضامن الأوروبي في إطار الاتحاد الأوروبي، والتضامن الأفريقي في إطار منظمة الوحدة (الاتحاد الأفريقي) والأمريكي- اللاتيني. وقد تأسست منظمة خاصة للتضامن الأفروأسيوي الـ ABSOO في العام 1957 ومقرّها القاهرة، هدفها التضامن الدولي مع الشعوب والأفراد والدول في إطار الأهداف المشتركة التي تتطلّع إليها، وخصوصاً إحراز الاستــــقلال والتحرر والانعتاق من الهيمنة الأجنبية والحق في التصرف بالموارد الطبيعية، وكان من المؤمل انضمام بعض دول أمريكا اللاتينية لها، ولاسيّما كوبا بعد ثورتها في العام 1959 وخصوصاً في الستينات، للتحضير لمؤتمر التضامن بين القارات الثلاث في العام 1965 لكن الانقلاب الذي حصل في الجزائر وتنحية الرئيس أحمد بن بلاّ واختفاء المهدي بن بركة قسرياً في باريس، ولجوء جيفارا إلى الكونغو لقيادة الكفاح المسلح، حال ذلك دون انعقاد المؤتمر .
التضامن الدولي بالمفهوم الذي تقدّمه الأمم المتحدة له مقاربة أخرى، فهو من جهة تضامن خاص إزاء الأفراد ومعهم وتضامن عام من جهة الشعوب له علاقة بالتنمية المستدامة. وفي الماضي والحاضر، فإن التضامن العالمي يعني عبور مفهوم الدولة الوطنية، خصوصاً وأنه يشتبك مع مفهوم التدخّل لأغراض إنسانية، والذي لا بدّ من تخليصه من الفكرة الدارجة، والتي تم توظيفها بممارسات سلبية لإملاء الإرادة. وعلى كل دولة الاضطلاع بمسؤولياتها فيما يتعلق بالضحايا، واللاجئين والمهمّشين والبيئة والأوبئة والأمراض والحروب والإتجار بالبشر والمخدرات وتجارة السلاح والإرهاب والتطرّف والمجموعات الثقافية الدينية والإثنية واللغوية والسلالية (ولا أقول مصطلح الأقليات)، وذلك بتأكيد التزاماتها القانونية بالعمل منفردة أو بصورة جماعية مع الدول الأخرى لتحقيق مقاصد الأمم المتحدة ، لاسيّما بالتضامن، كالتزام لمنع حدوث الانتهاكات أو لعدم تكرارها، خصوصاً وإن مثل هذا التضامن يسهم في التخفيف من آلام الضحايا.
الهدف من إصدار الإعلان هو ليس خلق التزامات جديدة، بل الوفاء بالالتزامات، وبذل قصارى الجهد في إطار آليات، وقائية Preventive أو حمائية Protective أو إصلاحية (علاجية) Reformatory . والغرض من التضامن الوقائي اتخاذ تدابير وفقاً للمعايير أعلاه لمنع وقوع الجرائم أو للحيلولة دون وقوعها، أما التضامن الحمائي فيقصد منه وضع ستراتيجية ما بعد وقوع الانتهاكات ولحماية الضحايا، ولذلك يمكن ملاحظة التداخل بين التضامن الدولي وبين موضوع السيادة وبينه وبين التدخل لأغراض إنسانية، مع التفريق بين الأغراض الإنسانية والتدخل العسكري، أو فرض الحصار الاقتصادي أو غير ذلك.وعلى الدول ومن واجبها التضامن فيما يتعلق بقضايا الاستعباد والامتناع عن التعذيب وضد الإبادة الجماعية (الجينوسايد) وضد العنصرية (الأبرتايد ) وضد الكولونيالية (الاستعمار)، وضد نقل السكان أو إجبارهم على الإجلاء ومع اللاجئين وضد التمييز الممنهج وضد الاختفاء القسري.
الغرض من إصدار إعلان دولي بخصوص التضامن هو مساعدة الدول على الانصياع للقانون الدولي، ووضع خطط الوقاية والحماية لإنفاذ حقوق الإنسان وضرورة تطبيقها، خصوصاً بالنظر للهياكل المتعلقة بجهات إنفاذ التضامن الدولي، لاسيّما بتنزيهه من الشروط المجحفة أو غير المتكافئة كتلك التي يفرضها صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو المؤسسات الاقتصادية الدولية العملاقة والعابرة للقارات، والدول المتنفّذة في العلاقات الدولية، خصوصاً بتوفير شبكة أمان دولية في إطار تشريعي وضمانات وتدابير. وتلك جميعها تشكل جانباً معيارياً في أهداف التضامن الدولي.
مقالات اخرى للكاتب