تزوجت وعمرها ثلاثة عشر عامًا. حينها كانت في الصف الخامس الإبتدائي، من رجل لم ترَه إلا يوم الزواج. أخلصت له العمر كله حتى وفاته بعد أن عاشا معًا وأسرتهما بضعًا وأربعين من السنوات. حين زواجها لم تكن قد بلغت فسيولوجيًا ما تبلغه النساء الناضجات القادرات على تحمّل واجبات الزواج، حيث لم تكن الدورة الشهرية قد جاءتها بعد، لكونها لم تزلْ بعد في السن الذي التي تلعب فيها أترابها ألعاب الطفولة بكل براءة. وجدت نفسها أمام مسوؤلية إدارة بيت الزوج الذي كان يعيش في ريف البصرة مع أهله، وبالتالي كانت المهمة أصعب في دخول هذا العالم الجديد وتحمل هكذا مهام في مثل هذه السن المبكرة.
فيما بعد بدأت تنسجم مع ذلك الواقع بصبر وحنكة. وبعد أن انجبت ثلاثة أطفال انتقلت العائلة إلى مدينة البصرة وانتقل أهل الزوج معها أيضًا. فقد كان الزوج هو المسوؤل الأكبر لعائلته الكبيرة بعد وفاة والده، وبسبب عمله الوظيفي المضمون وقتها، في حين كان أشقاؤه الآخرون لم يجدوا عملا بعد.
بعد أن اصبح لديها خمسة أطفال، عاد الحنين بها إلى مقاعد الدراسة، وصار من الضروري أن تعمل شيئًا ما مهمًا لمستقبل حياتها، وأن لا تبقى أسيرة البيت والتزاماته، لهذا طلبت من الزوج قبول عودتها للدراسة، وهو ما وافق عليه الزوج مشترطًا عليها أن تستمر في قيامها بجميع الإلتزامات المنزلية، الى جانب دراستها، الأمر الذي جعلها تضطر لأن تعدّ وجبات طعام اليوم التالي في المساء الذي قبله، ليتسنى لها أداء مهامها الدراسية وواجباتها المنزلية. واستمرت على هذه الحال حتى أكملت تعليمها وتخرجت حاصلة على شهادة تؤهلها لتحتل وظيفة معلمة. آنئذ كان عدد أطفالها قد ارتفع إلى تسعة، كان هذا عام 1966. بعد ذلك صاروا عشرة، حيث رزقت بطفل جديد، بعد أن مرّت اثنتي عشرة سنة على أخر طفل لها. كانت تحلم أن يتم تعيينها كمعلمة لتتمكن من عون الزوج ومشاركته في أعباء الحياة ومصاريف البيت الثقيلة التي تزداد يومًا بعد آخر. مضت أربعة أعوام ولم تكن بعد قد حصلت على الوظيفة. وهكذا قررت هي وعدد من النسوة ممن لم يحصلن على التعيين الوظيفي التوجه الى بغداد لمقابلة وزير التربية وطرح مشكلتهن عليه. وقد اختيرت هي مع خريجتين أخريين لمقابلة الوزير، وكان الوزير حينها هو (المجرم الفار عزت الدوري). وقد تم تحديد وقت المقابلة بعشرة دقائق. بعد أن طرحت النسوة مشكلتهن للوزير (الفهيم والناجح بكل دروسه)، سأل السيدات الثلاث سؤالاً واحدًا فقط. كان السؤال: هل أنتن بعثيات؟ فكان ردهن: لا! فما كان منه إلا أن قال: أنتن بنات البصرة كلكن شيوعيات ما لكنّ تعيين!
بقيت المرأة على هذا الحال ودون تعيين حتى الفترة (1972-1973)، حينها بدأت حملة محو الأمية. هذا الأمر أجبر الحكومة على قبول تعيين الكثير من الخريجات على هذا الملاك. بعد التعيين مباشرة أصبحت مديرة مركز لمحو الامية بسبب شخصيتها المميزة بين زميلاتها. وبقيت تعمل في هذا المجال حتى تحول التعيين الى الملاك الابتدائي بسبب انتهاء الحملة. هكذا بدأت أحوالها تتحسن، ولكن هذه الحال لم تستمر، حيث أن الاطفال بدءوا يكبرون وبدأت همومهم تزداد، حيث اضطر ثلاثة منهم لمغادرة المنزل لجهات مختلفة بسبب عملهم السياسي. ولم تعرف العائلة شيئًا عن مصير الثلاثة وإلى أين ولوا وجوههم. خلال هذه الفترة لم تنجُ العائلة من المضايقات المتلاحقة من قبل أزلام السلطة للاستفسار عن الأولاد الثلاثة.
في عام 1980 دخلت البلاد الحرب المجنونة في مواجهة إيران، ودخلت العائلة معها أزمات كثيرة مثل بقية العوائل العراقية، سواء الهروب من المدينة كلما اشتدت الحرب وخاصة البصرة التي كانت أكثر ساحات الحرب شراسة، وقد تحولت إلى جحيم حقيقي ابتلع الأبناء والأخوة والأزواج وأحرق الأخضر واليابس. خسرت الأم خلال هذه الحرب اثنين من الأبناء عام 1986. بعدها بقليل خسرت الأم زوجها في عام 1988. في كل هذه الأزمات كان لزامًا عليها أن تُظهر رباطة جأش نادرة للحفاظ على ما تبقى من العائلة.
انتهت الحرب ولم يمضِ إلا القليل من الوقت لتضميد الجراح حتى جاءت حرب احتلال الكويت وعواقبها الوخيمة من حصار وضيق في الوضع الاقتصادي وغيرها من الهموم العديدة الأخرى. خلال تلك الفترة العصيبة وبعد أن كبر الأولاد المتبقين وبعد زواجهم، تحول جهدها إلى العناية بعوائل أبناءها، وفي ذات الوقت لم تترك مهنة التعليم رغم أن مردودها المالي لم يكن يتجاوز أربعة دولارات شهريًا. بعد فترة من الزمن بدأ بصيص الأمل بحياة جديدة وبدأ لمّ شمل العائلة يعود، حين استطاعت بعد ستة عشر عامًا الحصول على أول اتصال بأبنائها الذين غادروا منذ نهاية السبعينات وبداية الثمانينات حيث غمرتها الفرحة بهذه الاتصالات.
لم تستمر الحال طويلاً حيث أعدم أحد الابناء عام 1999 رغم أنه لم يكن قد ارتبط بأيّ عمل سياسي، وقد كان سبب اعتقاله واهيًا، وصادف فترة حملة تنظيف السجون التي تزعمها قصي صدام الذي أعدم خلالها الآلاف من السجناء دون أية محاكمة أو قضية. هنا وجدت نفسها مسوؤلة عن أطفال ابنها المعدوم، وكانوا ثلاثة، حتى أن البنت الصغرى لم ترَ أباها على الإطلاق، لأن أمها كانت حاملاً بها عند إعدامه.
سقط الصنم وأخذت الحياة مجرى آخر، حيث عادت المرأة إلى عملها من جديد. ليس كمعلمة هذه المرة بل كمديرة، بعد أن تم انتخابها من قبل زميلاتها المعلمات في المدرسة. خلال هذه الفترة عملت بإخلاص من أجل الطلاب ومن ضمن ما قامت به، الوقوف بوجه الحملة الداعية للتوعية الطائفية. حيث كان يزور كل مدرسة رجل معمم يقدم الإرشادات الطائفية للطالبات، وهو ما لم توافق عليه. حيث طلبت من هذا المعمم كتابًا من مديرية التربية يسمح له بذلك وهو ما لم يكن بمقدوره أن يحصل عليه. ولم يكن هذا الإجراء الطائفي في المؤسسة التربوية إجراء رسميًا، بقدر ما هو إجراء أملته سيطرة رجال الدين في هذه المنطقة أو تلك وعلى كل ما فيها من مؤسسات. في مرة اخرى كان الصف السادس الابتدائي بحاجة لمدرس لغة إنكليزية. طلبت من مديرية التربية تعيين مدرس لهذه الغاية، ولكن المدرسة لم تحصل على طلبها. وبدأ العام الدراسي والطلبة دون مدرس. ومعلوم كثرة العطل في العراق لأسباب معقولة وغير معقولة. عندها لم تجد حلا سوى أن تطلب من أحد أبناء المحلة الذين يدرسون في الجامعة أن يقوم بتدريس الطلبة وتدفع المدرسة الراتب الذي تبرعت به معلمات المدرسة. وافق ( الأستاذ) الطالب الجامعي على الطلب وتولى مهمة تدريس الطلبة.
تقاعدت من التعليم بعد أن بلغت السن القانوني للتقاعد رغم طلب مدير التربية منها أن تستمر لأنه بحاجة لهكذا نماذج جادة ومخلصة في الإدارات الجديدة. لكنها اعتذرت بسبب وضعها الصحي.
بعد إحالتها إلى التقاعد، تعيش هذه المربية والأم الآن حياتها بنفس الحماسة والعطاء حيث تساعد أبناءها وأحفادها بكل ما تستطيع من خبرة حياتية عاشتها وتعلمت فيها أن تحب الحياة وتعمل من أجل المستقبل، ولا تبقى أسيرة الماضي، وأن الصبر والنسيان عوامل مساعدة جدًا على ديمومة هذه الحياة بطريقة أسهل.
مقالات اخرى للكاتب