الحلقة الأولى
القصر والمد ، والإشباع والاختلاس
المقدمة والدافع لذكرها وتعريفها :
1 - المقدمة :
نظمتُ العديد من القصائد على (البحر الكامل التام) ، منها : الملحمة الحسينية وضربها مقطوع ( متفاعلن متفاعلن متفاعلْ) ،ويبلغ المطبوع والمنشور منها مائة وعشرين بيتاً ، وعنوانها :
ليسَ(الحسينُ)الرمزُ قـَد خُصّت بهِ *** شيعٌ ولكنْ يستطيلُ فضــــاءا
وقصيدة رثاء الجواهري التي نظمت بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته ، وألقيت في الحفل التأبيني الذي أقامه المثقفون العراقيون في دمشق ، بمشاركة عائلة الفقيد ، ونشرتها عدة صحف عربية وعراقية ، والعديد من المواقع الرصينة في السنوات الأخيرة ، ويتضمنها ديواني الثاني المطبوع سنة 1998 م (حصاد أيّام وأيّام) ، وأيضاً ضربها مقطوع ، ومطلعها :
عمرٌ يمرُّ كومضةِ الأحلامِ *** نبضُ الحياةِ خديعة ُالأيّامِ
وقصيدة عن أحداث الجزائر في تسعينات القرن الماضي ، ونشرت في العديد من الصحف والمواقع ، وتوجد في ديواني الثاني نفسه ، ويتشكل عقدها من اثنين وأربعين بيتاً ، ويتميز ضرب كاملها التام بالتذييل ، وهو نادر جداً في الشعر العربي من(الكامل التام) ، ومطلعها :
كفّاً جزائرُ نزفَ جرحكِ للدماءْ *** في كلِّ يوم ٍنستفيقُ وكربلاءْ
إلى غيرها من قصائد هذا التام ، ناهيك عن مجزوئه ... وأخيراً نشرت قصيدتي ( يا لعبة الأقدارِ لا تتردّدي ...!!) في العديد من المواقع ، وسبق في تسعينات القرن الماضي ، تلاقفتها صحف عربية وعراقية بشيءٍ من التغيير, وهي من البحر الكامل التام نفسه ، ولكن ضربه صحيح ( متفاعلن متفاعلن متفاعلن) .
والشاعر الشاعر - وأعني القدير المتمكن، وليس بالناظم المتقنن - لحظة الإبداع ، لا يضع علم العروض في ذهنه، وكما يقول الجواهري : (وخلّها حرّةً تأتي بما تلدُ)، لذا وقع في هفوات عروصية ونحوية نادرة وعابرة ، لم يلتفت إليها لحظة إبداعها ، ولم يصححها من بعدها، وأعطى أذناً صماء لمنتقديه ، والحق معه ، فقد وضع أكثر من ضعف مما عقد المتنبي من درّره ، لأن عمره الشعري أكثر من ضعف الأخير ، ولأنَّ أذنه " أكبر من العروض" ، على حد تعبير أبي العتاهية ، وهويتحدى الخليل المعاصر له بعروضه وبحوره ، حين خروجه عنه و عنها ، فجاء بوزن ٍشعري لم يكن معروفاً من قبل , ( دق الناقوس ), وإنّ عبد الله بن هارون السّميدع , وهو تلميذ الفراهيدي أيضا "كان يقول أوزاناً من العروض غريبه في شعره , ثم أخذ ذلك عنه , ونحا نحوه فيه رزين العروضي , فأتى فيه ببدائع جمّة " , كما يقول الأصفهاني صاحب الأغاني .
إذن الشاعر بأذنه المرهفة ، هو الحجة على علم العروض ، وليس العكس ، عليه أنْ يقول ، وعلى الآخرين من النقاد والأدباء ، أن يلتمسوا العلل لأشعاره بعد بحث وتمعن شديدين ، شرط أن يكون الشاعر موهوبا ، ومن هنا تتطلع الإنسانية إلى الإبداع الفني المتجدد ، والكمال لله وحده على كلّ حال .
2 - الدافع لذكرها :
مرً أحد القرّاء الكرام من الأدباء على قصيدتي ( يا لعبة الأقدار : لا تتردّدي ...!!) ، التي تتضمن خمسين بيتاً ، دون غيرها من قصائدي التي ذكرت بعضها مقدمةً ببحرها الكامل ً، مبدياً رأيه بأربعة أشطر ، تتضمن قصر الممدود ، وذكر متواضعاً ، أن القصر لا يأتي إلا بالقافية ضرورة ..!! ، وعلى تخفيف حرفي ياء لشطرين ، وأقرَّ بنفسه بجواز قراءة أحدهما خطفاً ، ثم وقع في خطأ قراءة الفعل (رقى) لازماً ، وهو متعدٍ بتشديد القاف (رقـّى) ، وعجز البيت يوضح تعديه . وقد أجبته مباشرة بتعليقين ، ولابد من الإشارة أنْ هذا المرور والتعليق الكريم حفّزني على فتح موضوع الضرورات في الشعرالعربي ، التي ذكرتها معدّدا دون أيِّ توسع ، وبغير أمثلة في بحوثي السابقة العروضية . ، لأنني حسبتها سهلة يسيرة ، ولكن هنالك العديد من الشعراء ،وحتى بعض الكبار منهم تفوتهم أمور في غفلة الزمن ، وسهو الذهن ، بل أن بعض العمالقة كالمتنبي والجواهري ، يسيرون أحياناً على المدرسة الكوفية ، فيحسبهم المتضلعون ، أنهم غير ضالعين ، فيجب منع الالتباس عن الرموز النبراس .
3 - تعريف الضرورات :
هي مخالفات لغوية ، قد يلجأ إليها الشاعر مراعاة للقواعد العروضية وأحكامها، لاستقامة الوزن ، ولا تُعدّ عيباً ، ولا خطأً ، إذا كانت وفق ما تعارف عليه عباقرة العرب من الشعراء والنقاد والعروضيين القدماء ، وقبلوا به ، سواء كان للشاعر فيه مندوحة أم لا ،والحقيقة أول من شرع بأحكام الضرورة سيبويه (188 هـ ) في كتابه (لكتاب) دون تعريف أو تنظيم ، ووضعها في باب (ما يحتمل الشعر ) ، واستند على أستاذه الخليل في بعض أحكامه ، ولما جاء ابن فارس ( 395 هـ) أجاز الضرورات الشعرية على أن لا تخل بالإعراب ، وأول من ألف كتاب (ضرورة الشعر) أبو سعيد السيرافي (ت 369 هـ) ، وتطرق إلى تسعة أوجه منها ،ولكن أهم كتاب في هذا المجال هو(ضرائر الشعر ) لابن عصفور (ت 669 )، حيث جمع فيه جهود كل من سبقه ، مهما يكن تصنف على ثلاثة أسس ، وهي: ضرورة الزيادة ، وضرورة الحذف ، وضرورة التغيير ، وكلّ ما يصحّ أن يأتي بالنثر ، لا يعدّ من الضرورات في الشعر ، لأن الناثر لا يجوز أن يلجأ للضرورة ، لعدم إلزامه بالإيقاع الوزني، وسنأخذ في هذه الحلقة (القصر والمد) و(الإشباع والاختلاس .
الضرورات الشعرية :
1 - قصر الممدود :
جائز عند أقطاب المدرستين البصرية والكوفية بالإجماع ، وشائع جدا في الشعر العربي منذ الجاهلية حتى يومنا ، وقد قال ابن مالك عنه في (ألفيته) :
وقصر ذي المدِّ اضطراراً مجمعُ *** عليهِ ،والعكسُ بخلفٍ يقعُ
فكما تقرأ : القصر مجمع عليه لدى البصريين والكوفيين ، فاحتجاج الشاعر الكريم - ولا أظنه شاعراً عمودياً - على قصر ( البقاء )إلى (البقا) في الشطر(مَنْ عاشَ عاشَ ومِنْ يمتْ فلهُ البقا ) ، ليس صائباً ، ،لأنه جائز بالإجماع ، وشائع لدى كلّ الشعراء - كما أسلفنا - ، وإليك ، قال النمر بن تولب ، وهو شاعر مخضرم بين الجاهلية والإسلام ، وأسلم ، وقصر الكلمة نفسها التي قصرتها (البقاء) :
يَسُرّ الْفَتَى طُول السَّلَامَة وَالْبَقَا *** فَكَيْف تَرَى طُول السَّلَامَة يَفْعَل
وكذلك وردت كلمتا ( الحياء ، السماء) مقصورتين في أشطر قصيدتي التالية : (ولِمَ الحيا أمن الضعيفِ الأوهدِ؟!) ، (وتعلّقي بالعرشِ وارثةَ الســــما) ، وجميعها - مع البقا - شائعة الاستعمال في الشعر العربي قديمه وحديثه ، وهي رائعة في مكانها ، فيجب على الشاعر المجيد أن يحسن توظيف الضرورة ،وذلك يرجع لموهبته ، ومدى سعة ذخيرته الأدبية !!
يقول الشاعر إيليا أبو ماضي :
قلتُ : ابتسم ، يكفي التجهم في السما
وإليك قول الشاعر الذي قصر( أساء) إلى (أسا) :
ليت شعري أمحسن من أسا بي *** وقليلٌ أجداءُ يا ليت شعري
والشريف الرضي يقصر (كربلاء) ، و(بلاء) في شطر واحد : (كرْبَلا، لا زِلْتِ كَرْباً وَبَلا) ، وعجز بيت المثل السائر (لابد من صنعا وإن طال السفر ) ، قد قصرت (صنعاء) إلى (صنعا) ،
2 - مد المقصور :
ولا أطيل عليك ، والأمثلة تكفي ، وستأتي ! ، الذي لم يجزه البصريون ، ونحن اليوم نسير على نحوهم ، مد المقصور ، وكما مرّ عليك ابن مالك قد أجازه قائلاً : (العكس يقع ) ، ولكنه غير مجمع عليه ، وأبو العباس المبرد شيخ البصريين في عصره ، يعلل بـ (كامله) ، سبب إجازة القصر ، لا المد بقوله : " وذلك أن الممدود قبل آخره ألف زائدة، فإذا احتاج حذفها لأنها ألف زائدة، فإذا حذفها رد الشيء إلى أصله، ولو مد المقصور لكان زائداً في الشيء ما ليس منه " (الكامل : المبرد -الوراق - الموسوعة الشاملة 1/ 57) .
ولكن أبا تمام(ت 228 هـ)الذي سبق المبرد (ت 285 هـ) بجيل، قصر ومدّ في بيت واحد قائلاً :
ورث الندى وحوى النُّهى وبنى العلا ** ورجا الدجى ورما الفضا بهداء
قصر (الفضاء)إلى ( الفضا)، ومد (الهدى) إلى (هداء ) ، والجواهري في عصرنا ، لم يلتفت إلى مذهب البصريين ، وسار على مذهب قومه الكوفيين ، فمدّ (ضحى) إلى (ضحاء) في وصف سامراء ، ببيته التالي :
بلدٌ تساوى الحسن فيه فليله *** كنهاره وضحاؤه كأصيله
ولكن في البيت الآتي اختلف البصريون والكوفيون حول كلمة (غناء)
سيُغنيني الذي أغْناك عنّي *** فلا فقرٌ يَدومُ ولا (غِنـَاءُ)
ابن منظور في (لسانه - مادة غنا ) يعتبرها من (الغنى) ضد الفقر، أي بالألف المقصورة ، ، وهو محق ، بدليل - والكلام لي - ، ورد طباقها (فقر) بالعجز نفسه ، إذن مدّ الشاعر المقصور ، وهذا البيت أوقع خلافاً بين الكوفيين والبصريين على مدّ المقصور ، إذ يذهب البصريون أنّ (الغناء) مصدر لـ (غانيت)، لا لـ (غنيت) ، وهذا تعسف منهم ، والكوفيون يصرّون على صحة رأيهم - وأنا معهم - ويستشهدون بقول الشاعر :
قد علمتْ أمّ أبي السّعلاءِ *** وعلمت ذاك مع الجراءِ
أنْ نِعْم مأكولاً على الخواءِ**يا لك من تمرٍ ومنْ شيشاءِ
ينشب في المسعلِ واللهاءِ
والسعلاء والخواء واللهاء ،،، كلّه مقصور في الأصل ، ومدّه لضرورة الشعر ، فدلّ على جوازه ، هذه وجهة نظرنا ، فنحن على مذهب الكوفيين كالمتنبي والجواهري في هذه المسألة ( إذا أردت التوسع ، راجع : نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية - ص 68 - 76 - لكاتب هذه السطور - توجد كل المصادر بدقة ).
3 - الإشباع :
يعني تبليغ وإشباع الحركة حتى يتولد منها حرف من جنسها , لكي يستقيم الوزن , فنشبع الضمة إلى الواو ، والكسرة إلى الياء ، والفتحة إلى الألف , وكما شرحنا من قبل - في علم العروض - أنّ الكم الصوتي لحرف اللين أكبر من الكم الصوتي للحركة المجانسة له ، ولكن ليس بكثير ، فيمكن في حالات خاصة لضرورة ، إشباع الحركات لتولد حروف لينها ، أو اختلاس الحروف لتصبح حركات جنسها ، وقد يكون الإشباع واجباً ، نظراً لأحكام الشعر ، كالحركات الأخيرة لصدر البيت وعجزه ، وإليك قول مجنون ليلى ، وقد أشبع حركة الفتح في قافية الصدر والعجز إلى الألف :
ألا ليت شعري مالليلى وماليا *** وماللصبا من بعد شيب علانيا
وكذلك كحركة ضمير الغائب المفرد ، إذا سبقه حرف متحرك ، مثل : ( لَهُ) تصبح (لَهو)، و(بهِ) تغدو(بهي)،و(كلّهمُ) تمسي(كلَّهمو) ،ولكن في (منْهُ)،و( عنْهُ)... للشاعر الخيار بالإشباع أو عدمه ومن ذلك قول الشاعرمسكين الدارمي ربيعة بن عامر بن أنيف وقد أشبع حركة الكاف مرتين ، و الخاء ،والهاء في صدر البيت التالي ، وقصر الهيجاء إلى الهيجا في عجزه :
أخاكا أخاكا إن من لاأخا لهو *** كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحِ
البيت من (الطويل)، يمكن عدم إشباع حركتي الفتح للكافين ، فتقبض تفعيلتي (فعولن ، مفاعيلن) ، فتصبحان ( فعولُ، مفاعلن) ،وهما من جوازات الطويل ، فيكتب البيت على الشكل الآتي :
أخاكَ أخاكَ إنْ من لا أخاً لهو *** كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحِ
ولكن يجب إشباع حرف الخاء لاستقامة الوزن ، ناهيك عن إشباع الهاء فهو لازم ، وكذلك قول الفرزدق وقد أشبع حركة الفتحة في راء الورَق لتصبح وراق حتى يستقيم الوزن :
فظلا يخيطان الوراق عليهما *** بأيديهما من أكل شرِّ طعامِ
وقول الشاعر ، وقد أشبع فتحة الراء في كلمة (العقرب) لتصبح :
أعوذ بالله من العقراب *** الشائلات عقد الأذناب
ويذكر ابن رشيق في (عمدته) (الوراق - الموسوعة الشاملة : 1/ 205) قول قيس بن زهير ، وقد أشبع حركة تاء الفعل المجزوم (يأتيك) :
ألم يأتيك والأنباء تنمى ***بما لاقت لبون بني زياد
4 - الاختلاس:
يعني النطق بالحركة سريعًاً ( خطفاً) ، وهو ضد الإشباع ، أي تقليل موجة الكم الصوتي لحروف اللين إلى مدى كمّ الحركات المجانسة لها ، لكي يستقيم الوزن ، وقد استخدم سيبويه المصطلح ، بقوله : " وأما الذين لا يشبعون فيختلسون اختلاسا " ( دراسات في اللغة - اتحاد الكتاب العرب : 1/ 155 ) . وهو جائز على مستوى الحروف والحركات ، ونعني حركات الضمائرالتي يمكن أن تُختلس ، وتُمنع من الإشباع كـ (منْهُ) ، (عنْهُ) ، (إليْهِ) ، (عليْهِ) ، ، فالحرف قبل الضمير ساكن ، أمّا إذا كان إشباع الضمير واجباً ، لأن الحرف الذي قبل الضمير محرّك، فلا يجوز اختلاسه كـ (لَهُ) ، (بِهِ) ،و (كلَّهُمُ) . فمثلاً البحتري في البيت التالي (الكامل) ، لم يشبع الهاء في كلمة (فيهِ) :
أظْهرْتَ عزّ الدين فيهِ بجحفلٍ *** لجب يحاط الدين فيه وينصرُ
وسنقطع صدر البيت ، لنعرف علّة عدم الإشباع : أظْهرْتعزْ (متْفاعلن) ، زدْدي نفي(متْفاعلن) ،هبجحْ فلن ( متفاعلن) ، إذا أشبعت كسرة الهاء ، يكسر البيت ، فتصبح التفعيلة (ماتفاعلن) .
ومن هذا الاختلاس الحركي أيضاً، قول السموأل :
وما قلّ منْ كانتْ بقاياه مثلنا *** شباب ٌ تسامى للعلا وكهول
لم يشبع الشاعر الهاء في كلمة (بقاياهُ)،ولو أشبعها لانكسر الوزن ، تعال معي رجاءً ، سأقطع لك صدره ، الذي يتضمن (بقاياه) ، البيت من الطويل ، وللطويل عروضة واحدة مقبوضة ، فتفعيلات الصدر (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ) ، إذن :
وماقلْ (فعولن ) ، لمن كانتْ (مفاعيلن) ، بقايا(فعولن)، همثْ لنا (مفاعلن ) ، ولو شبعت الهاء يتولد لنا هومثْ لنا (مستفعلن) ، وهذا التفعلية غريبة على الطويل ، قينكسر البيت !!
أمّا الحروف فيجب اختلاس ألف (أنا) عند الوصل ، وتثبيتها يُعدّ ضرورة ، ولكن عند الوقف تثبت ، كما في نهاية القافية ،يقول الجواهري :
بأبي أنت لا أبي لكِ كفؤٌ ولا أنا
ومثال الاختلاس أيضاً قول المغيرة بن حبناء :
ولا أنزِلُ الدار المقيمَ بها الأذَى *** ولا أرْأم الشيْ الذي أنا قادرهْ
فالاختلاس في ألف (أنا) الذي تكتب ولا تنطق، كما أنّ ألف (أنا) قد تكتب وتنطق في حالة الإشباع كقول الشاعر للطرافة :
مرّ الجرادُ على زرعي فقلتُ لهُ*** الْزْم طريقَك لا تولَعْ بإفْساد
فقال منهم خطيبٌ فوقَ سنبلةٍ**** أنَا على سفَرٍ لا بــدَّ من زادِ
ويمكن اختلاس حروف العلّة ، كما اختلس الشاعرالقديم الألف في كلمة (وصّني) بالشطر التالي: وصّاني العجاج فيما وصَّني
فالألف حوّلت إلى فتحة ضرورة ، وقد حذفت الألف حين كتابة الشعر ، كي يعلم القارئ الكريم أنَّ الاختلاس ضرورة ، وإليك حين تريد قطع همزة وصل ضرورة ، من المفروض أن تضع القطعة فوقها أو تحتها ، كما في كلمة (الاثنين) حين قطعها في الشعر فقط ضرورة تكتبها هكذا (الإثنين ) ، وهذا لا يجوز في النثر مطلقاً .
نعود والعود أحمد للاختلاس ، ففي قصيدتي (يا لعبة الأقدار..) ، أقرّ قارئنا الأديب بجواز الشطر الأول الآتي (خطفاً ) ، أي بسبب ضرورة الآختلاس ، ولكن لم يوفق في تقطيع الشطر الثاني ، مع العلم هي الضرورة نفسها ، إليك:
بدءًا بعدنان ٍوثنّي باحمدِ
بدْأن بعدْ (متْفاعلن) ، نانن وثنْ (متْفاعلن) ،نِبِأحْ مدي (متفاعلن) .
وقد أقرً الرجل بالخطف ، ويعني من حيث يدري أو لا يدري بضرورة الاختلاس ، ونعرج على الشطر الثاني المعني :
إنْ قال كفّاً قولي بلْ كلِّ اليدِ
البيت واضح جدا ، كلّ ما هنالك اختلاس ياء (قولي) إلى الكسر ، بمعنى القراءة الشاعرية السريعة (الخطف) بالاختلاس ،خذ التقطيع إن أردت :
إنْ قالكفْ (متْفاعلن) ،فن قولِبلْ (متفاعلن) ، كلْلِلْ يدي (متْفاعلن ) ، لا أعرف أين شرق وغرّب صاحبي بالتقطيع ...!!
وقد لا تكتب بعض الضرورات الشعرية في دواوين لشعراء مشهورين ، أما السببه قد يكون الإهمال ، أو من باب الخطأ الشائع خير من الصحيح الضائع ، فيترك أمر القراءة لنباهة القارئ اللبيب ، أو لقلة معرفة المشرفين على الطبع ، فمثلاً من أشرف على دواوين الجواهري الكبير ، وقعوا في هذا الخطأ المطبعي ، أو الجواهري نفسه تركه لذوق القارئ وثقافته ، وهي نادرة جداً ، ونحن نذكرها لغرض الدراسة والبحث ، والأمانة العلمية ، فمثلاً قد اختلس ياء (حمورابي) في البيت التالي (البسيط) ، :
هنا حموراب سنَّ العدل معتمداً *** به على حفظ أفرادٍ وعمرانِ
لم يكتب ياء حمورابي على أساس الاختلاس ، وهذا هو الصحيح ، فلو كتب الياء ، التفعيلة الثانية تكون (فاعيلن ) ، وليس (فاعلن) ، فينكسر البيت ، وكاتب هذه السطور ، أيضا لم يكتب ياء المخاطبة ، وعوضها بالكسرة للضرورة نفسها ، في الشطر (فدعِ العـــــراقَ بشعبهِ وترابهِ ) .
نرجع ،وفي البيت الآتي يختلس الجواهري ألف (غاندي ) لفظاً ، وتكتب في الديوان خطأً ، لأن بوجود الألف ، لا يستقيم وزن (فاعلاتن) إلاّ بـ (صانغن دي) بالاختلاس، البيت من (الخفيف) ، وكتبت التدوير صحيحاً ، وليس كما ورد في الديوان ، إذ كتبت الهند كلها في العجز :
صان غاندي دم الجموع وصانَ الـ *** هندَ أن تستبيحها شعواء
ومن قصيدة (براها) : من (مجزوء الكامل) :
براها سلام كلما ***خفق الصباح على جناحِ
لايستقيم الوزن إلا باختلاس ألف براها (برَهَا سلا متفاعلن) ، وقد كتبت الألف ، والأفضل عدم كتابتها .
لكي لا نطيل عليك ، ونترك سعة للراحة والتأمل والإعادة والإفادة ، ولك أنْ تحسب ما تشاء ، ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) ، شكراً لصبركم الجميل .