" عام الأمير " في ايطاليا :
تحتفل أيطاليا طوال هذا العام ( 2013 ) الذي أطلق عليه أسم " عام الأمير " بمرور ( 500 ) عام على تأليف أهم وأشهر كتاب في التنظير السياسي الواقعي وهو كتاب " الأمير " للسياسي والمفكر الأيطالي نيكولو مكيافللي ( 1469- 1527) ، وذلك بأقامة المعارض لكتبه ومخطوطاته ورسائله ، من بينها معرض كبير افتتح مؤخراً في متحف فيتوريانو في وسط العاصمة الإيطالية . وضم العديد من الأعمال الفنية المهمة, ومخطوطات نادرة ورسائل شخصية , وقطع قديمة أخذت من مجموعات خاصة وعامة مختلفة مثل أرشيف فلورنسا ومتحف النهضة في روما ومتحف الفاتيكان.
وأضافة الى المعارض ، التي تستعيد قصة ونجاح نتاجه الرئيسي «الأمير» عبر الأجيال ، يتضمن برنامج الأحتفال ألقاء المحاضرات وأقامة الندوات ، التي دعي اليها نخبة من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين ، الذين تخصصوا أو أسهموا في دراسة حياة مكيافيللي وأعماله ، وكذلك نخبة من نجوم السينما والمسرح ،الذين أشتركوا في افلام سينمائية وعروض مسرحية عن حياته أو مستوحاة من نتاجاته الفكرية والمسرحية .وللمناسبة ذاتها ، صدرت طبعة جديدة وراقية من مجموعة مؤلفات مكيافللي الكاملة ، ضمن سلسلة " المكتبة الحديثة " في الولايات المتحدة الأميركية ، وهي سلسلة قيمة ، رفيعة المستوى وتقتصر على عيون النتاجات الفكرية والأبداعية في تأريخ الحضارة البشرية .
أحتفالات أيطاليا هذا العام ، متعدد الجوانب والأشكال ، فثمة فعاليات وأنشطة تهدف الى تربية الجيل الأيطالي الجديد وغرس حب الوطن ورموزه التأريخية ، وفي مقدمتهم مكيافللي في القلوب و الأذهان ، وذلك بتنظيم رحلات الى الأماكن ،التي عاش فيها مكيافللي أو التي شهدت ولادة مؤلفاته أو المحطات المهمة في حياته الشخصبة ، الحافلة بالنجاحات الباهرة وايضاً بالهزائم المريرة والبؤس والفاقة والحرمان .
ايطاليا ترى في مكيافللي رمزاً وطنيا ناضل من اجل توحيد أيطاليا ومستقبل أفضل لشعبه .
.وقد يتعجب القاريء ، كيف يمكن الأحتفال بذكرى تأليف كتاب " سيء الصيت " مثل كتاب " الأمير " ؟ .
ولكن لم العجب ، اذا كانت دولة منغوليا في عهودها المتعاقبة ( من ملكية وشيوعية وديمقراطية ) ، كانت وما تزال تعتبر جنكيز خان رمزاً وطنياً !! " و تحتفل بذكرى ميلاده وتقيم المهرجانات و المؤتمرات لتمجيده .!!
ولكن شتان بين مكيافللي السياسي البارز والوطني المخلص والمفكر اللامع لعصر النهضة الأوروبية ، وبين جنكيزخان الدموي ، الذي لم تعرف عنه صفة حميدة واحدة ، ولا اية اعمال مفيدة ، ناهيك عن المصائب والكوارث التي نجمت عن غزواته البربرية .
مكيافللي السياسي والدبلوماسي :
تأسست جمهورية فلورنسا في عام (1492) بعد طرد آل مديتشي منها . وبعد فترة وجيزة من حكم سافونارولا ، انتخب مكيافللي – و قد كان في العام التاسع والعشرين من عمره - مديرا لمكتب البريد ، ولكن لم يمر سوى شهر واحد ، حتى أكتشف رئيس الجمهورية بييرو سوديريني معرفة مكيافللي الواسعة والمدهشة في اللغات ، فأصبح أحد الأعضاء العشرة لمجلس وزارة الحربية وكانت الحرب دائما قاب قوسين أو أدنى : أسبانيا ، فرنسا ، روما ، كانت ترسل جيوشها الى أسوار دويلات المدن الضعيفة، التي كانت في نزاع مستمر فيما بينها ( ميلانو، جنوا ، فلورنسا ، نابولي ..وغيرها ) ، وعاجزة عن الدفاع عن نفسها.
كان مكيافيللي يسرج جواده ويحشو السرج بالكتب و ينطلق للدفاع عن مصالح جمهوريته في بلاط ملك فرنسا لودفيك الثاني عشر او الأمبراطو ماكسيميليان أو البابا يوليوس الثاني . وقد أبلي بلاءاً حسناً في هذه المهام الدبلوماسية – كمبعوث رفيع المستوى - بذكائه وفطنته ورجاحة عقله وفصاحة لسانه .
حدّد مكيافللي مهمته الدبلوماسية كما جاء في احد تقاريره على النحو التالي : " لا يكفي ان تدرك نية الحاكم ، بل ينبغي معرفة رغباته الحقيقية ، ولا يكفي معرفة خططه فقط ، بل ادراك في اي اتجاه يعمل عقله... عليك استطلاع ، ما يمكن ان يجبره على المضي قدما الى أمام ، وما يرغمه على التراجع " .
ولم يقتصر عمل مكيافللي على المهام الدبلوماسية ، بل شمل قضايا عملية بحتة للحفاظ على الجمهورية . كانت مهمة الدفاع عن المدينة قبل مكيافللي مناطة بالمرتزقة ، الذين كان من السهل على العدو أستمالتهم بالمال، ولكن مكيافللي وأقتداءاً بـ ( سيزار بورجيا ، دوق رومانيا) أسس قوات الشرطة المؤلفة من مواطني فلورنسا . فقد أدرك ان الدفاع عن المدينة بالنسبة اليهم ، ليس مجرد خدمة ، بل عمل شخصي له علاقة مباشرة بحياتهم و مستقبلهم . ولكن قوات الشرطة هذه كانت قليلة العدد والخبرة ، و بعد أحراز عدة أنتصارات صغيرة ، غير حاسمة ، تراجعت في نهاية المطاف أمام ضغط قوات مديتشي المتفوقة و المتعطشة للأنتقام ، التي احتلت المدينة ، ونكلت بالجمهوريين البارزين وبضمنهم مكيافللي ، الذين كان مصيرهم الهرب الهرب أو الأعتقال ..
في هذا الوقت العصيب الذي كان فيه مكيافللي مهدداً بالأعتقال ، قام بعمل جريء لا ينسجم مع طبعه وصورته . فقد تم الكشف لأول مرة عن وثيقة في غاية الأهمية ، نشرها الكاتب والمترجم ( بيتر كونستانتين ) باللغة الأنجليزية ضمن كتابه " المؤلفات الأساسية لمكيافللي The Essential Writing of Machiavelli" . وهذه الوثيقة عبارة عن رسالة خطية وجهها مكيافللي الى حكومة " مديتشي " الجديدة ، دافع فيها بحرارة عن زعيم الجمهورية ( سوديريني Soderini ) الهارب من المدينة أثر سقوطها بيد قوات مديتشي، وكان هذا الأخير يحاول بكل السبل تلطيخ سمعة " سوديريني " ويعتبره من ألد أعدائه .
وكالعادة حاول مكيافللي ان يصوغ رسالته باسلوب دبلوماسي ، حيث كتب يقول :
" ان حكومة مديتشي تضعف نفوذها عندما تهاجم شخصاً لم يعد بأمكانه الحاق اي ضرر بالحكومة الجديدة " .
ولكن دبلوماسية مكيافللي أخفقت هذه المرة في تحقيق هدفها ، وأعقبها اعتقال مكيافللي نفسه.
مكيافللي في السجن ! :
كان ذلك في عام 1513 في فلورنسا ، في أيام النهضة الأوروبية ،التي شاعت فيها طريقة ستراابادو Strappado لتعذيب للسجناء ( من الكلمة اللاتينية strappare- السحب أو الجر ) ، حيث يقيد السجين من معصميه بالحبل وراء ظهره و أحياناً تربط أثقال على قدميه ويسحب بهذا الحبل الى الأعلى ، ثم يترك ليهوي على أرضية صخرية لمرات عديدة الى ان يعترف بما هو مطلوب منه .وكانت " حفلة " التعذيب هذه تنتهي بأصابة السجين برضوض أوالتواء أو خلع مفصل أو أكثر وأحياناً بشلل اليدين .
ولكن ما كاد مكيافللي يعود الى زنزانته بعد ست مرات من الـ" سترابادو " حتى يطلب القلم والورق على الفور ، ليكتب " سوناتا " مكرسة لـ( جوليانو دي ميديتشي ) الرائع ، أحد حكام فلورنسا ، الذي تم سجن مكيافييلي بأمر مباشر منه .ومع ذلك فأن" السوناتا " لم تكن فقط تمجيدأ لـ( ميديتشي ) ، بقدر ما كان فيها من جرأة وتهكم لاذع وفكاهة :
" على جدار زنزانتي قمل بحجم الفراشة ، اما الألهام ، فأنه بدلاً من ان يخدم الأنسان المقيد بالسلاسل ، يمنحه ركلةً . هكذا يعامل الشعراء عندنا ."
ربما يظن القاريء ان مكيافيللي كان شخصاً أنتهازيا وماكراً وقد أذل نفسه بطلب العطف والرحمة والغفران من عدوه اللدود . ولكن هذا الظن في غير محله ، لأن اسلوبه يحتمل تأويلات كثيرة كأي مفكر عظيم .ولا أحد يعرف هل قرأ راعي الفنون ( جوليانو مديتشي " السوناتا ) المهداة اليه أم لا ؟ ، ولكنه – على أي حال - لم يطلق سراح مكيافللي من السجن حتى العفو العام الذي اصدره لمناسبة اختيار الكاردينال ( جيوفاني مديتشي ) لمنصب بابا الفاتيكان .
الأقامة الجبرية في مزرعة الأسرة:
ذكرت جريدة الـ( تلغراف ) البريطانية مؤخراً ، ان البروفيسور ( ستيفان ميلنر ) من جامعة ( مانجستر ) عثر في مدينة فلورنسا على أمر القاء القبض على مكيافللي . اكتشف العالم البريطاني بمحض المصادفة هذه الوثيقة ، التي يعود تأريخها الى عام ( 1513 ) خلال دراسته للأوامر التي أصدرتها السلطات في فلورنسا خلال الفترة ( 1470 – 1530) .
ويرى ميلنر أن هذا الأمر كان بداية لتسقيط وأزاحة أحد المع الساسة في عصر النهضة وكان ذلك أحد الأسباب التي ادت الى وفاته في ظروف الفاقة والبؤس .
ويقول ميلنر ، انه جرى اولاً احتجاز مكيافللي في المدينة تحت حراسة مشددة لفترة قصيرة ومن ثم تم نقله الى مزرعة في الريف وفرض عليه الأقامة الجبرية .وهنا كتب مكيافللي معظم ، ان لم يكن كل مؤلفاته . وبضمنها (الأمير ، المطارحات ، تأريخ فلورنسا ، فن الحرب ، والعديد من الأعمال الأبداعية من مسرحيات وقصائد وغيرها كثير)
المزرعة التي يتحدث عنها ميلتر كانت مزرعة الأسرة في ضواحي فلورنسا ، حيث نقل اليها مع زوجته وأطفاله الخمسة . كانت المزرعة مهملة وخربة ، والأهم من ذلك أن مكيافللي حرم من التواصل الفكري – العزيز على قلبه وروحه – مع أصدقائه المثقفين ، الذين كانوا في رسائلهم اليه يمازحونه ويطلبون منه ابلاغ تحياتهم الى دجاج المزرعة !!
كانت حياة مكيافللي في عزلته الأجبارية في الريف قاسية ومثمرة فى آن واحد : حياة رتيبة وباهتة في النهار ، ومشرقة وضاءة في الليل ، حيث يلجأ الي صومعته ويعيش ساعات بين العظماء والمفكرين ، في تأمل وتألق فكري جدير بالعباقرة من أمثاله .
في رسالة لـصديقـه " فرانسيسكو فيتوري " مؤرخة في الثالث عشر من سبتمبر( 1513) - التي تعد احدى الرسائل الأكثر شهرة في عصر النهضة - ذكر مكيافيلي تفاصيل حياته في المزرعة – المنفى ، فبعد أن وصف حياته اليومية مع عائلته والجيران، كتب يقول :
«عندما يحل المساء أعود إلى البيت، وأدخل إلى المكتبة، بعد أن أنزع عني ملابسي الريفية التي غطتها الوحول والأوساخ وتفوح منها رائحة الروث ، ثم أرتدي ملابس البلاط ، وأبدو في صورة أنيقة، أدخل إلى المكتبة لأكون في صحبة هؤلاء الرجال الذين يملأون كتبها، فيقابلونني بالترحاب وأتغذى بذلك الطعام الذي هو لي وحدي، حيث لا أتردد بمخاطبتهم وتوجيه الأسئلة لهم عن دوافع أعمالهم، فيتلطفون علي بالإجابة، ولأربع ساعات لا أشعر بالقلق، وأنسى همومي، فالعوز لايخيفني والموت لايرهبني، لقد تملكني الإعجاب بأولئك العظام، ولأن دانتي قال: «يُحفظ العلم الذي يأتي بالتعلم». ولقد دونتُ ملحوظاتٍ من محاوراتهم، وألفت كتاباً عن الإمارات، حيث أنكبُ جاهدا في التأمل والتفكر بما يتعلق بهذا الموضوع، مناقشة ماهية الإمارات، وأنواعها، وكيفية امتلاكها، ولماذا تٌفقد.
وبحلول نهاية عام 1513 ، كان قد أنتهى من تأليف كتاب صغير تحت عنوان " الأمير "
وقد وصف فيه على حد قوله ، شخصيات تأريخية وأفعالهم في الواقع، وليس كما يبدو لأنفسهم أو أنصارهم .
كتاب " الأمير "
مصائر الكتب مثل مصائر البشر ، يذهب أغلبهم من دون أن يتركوا أثراً عميقاً في الحياة ، وآخرون لا يشكل الموت الا لحظة عابرة في ذكراهم الخالدة ، وتظل صورهم حية في الأذهان وتظل أبداعاتهم في شتى جوانب المعرفة والفنون باقية ويظل تأثيرهم متواصلاً في الأجيال الجديدة . ومؤلف كتاب " الأمير " من هذا النوع الأخير ، مهما كان رأينا في شخصيته وأعماله سلباً أو أيجاباً .
جاء أول ذِكرِ لهذا العمل في رسالة مكيافللي إلى صديقه ( فرانسيسكو فيتوري ) المؤرخة في 10 ديسمبر 1513 ، يقول فيها أن الكتاب يتكون من إهداء و (26) فصلاً مختلفة الأحجام، وقد ضمنه عصارة تجربته وبعثه كأهداء الى أمير فلورنسا الجديد ( لورانزو دي ميديشي)
لم يكن كتاب " الأمير " الوحيد الذي ألفه مكيافللي ، و لا يتضمن كل آرائه في قواعد وأساليب الحكم ، الا أنه الأشهر . وكان يوزع على شكل مخطوط ونسخ عنه ، قبل ان يتم طباعته ، بعد خمس سنوات من وفاة مكيافللي سنة (1532) . وعنه يقول صاحبه :
" لم أحاول تزويق كتابي بالجمل الطويلة ، ولا بالزخارف اللفظية الطنانة ، ولا بالحلي الجذابة المصطنعة ، التي يلجأ اليها الكثير من الكتاب لتنسيق مؤلفاتهم ، لأني لا أطلب مجداُ لكتابي أكثر مما يستحقه بفضل جدة موضوعه ورزانته ".
أنقض النقاد على الكتاب حتى قبل طباعته في عام (1532) ، وقد وصف كاردينال أنجليزي مكيافللي بـ (عدو للجنس البشري). وتبارى الكتاب والمؤرخون في اطلاق أسوأ الألقاب عليه وعلى أهم أعماله ، كتاب " الأمير " من قبيل ( محامي الشيطان ) و ( انجيل الطغاة ) وما الى ذلك من اسماء و ألقاب تنطوي على اتهامات مسبقة ضده وتحميله مسؤولية كل ما أرتكبه أشهر الطغاة خلال القرون الخمسة الماضية من مذابح وجرائم وقمع وأرهاب وبضمنهم ( ايفان الرهيب ، هنري الثامن ، كاترين مديتشي ، كاليكولا ، ستالين ، هتلر ، موسيليني ، صدام حسين ... والقائمة تطول ، ومن حقنا أن نتساءل : ولكن من الذي ألهم الطغاة على مرالعصور قبل مكيافللي ( جنكيزخان ، كاليجولا ، نيرون ، الملك الأسباني فرديناند وغيرهم ؟ ) .
رغم كل الأنتقادات اللاذعة التي وجهت الى كتاب " الأمير " ومؤلفه ، الا أنه لقي نجاحاً مدوياً منذ ظهوره لأول مرة ، ليس فقط بفضل جدة واهمية مضمونه ، ، بل لأسلوبه الواضح وصراحة المؤلف المتناهية أيضاً : الكثير من مقولات المؤلف البليغة ساعدت على ايصال أفكاره للجمهور العام بكل يسر وسهولة .و خلال المائة عام التالية على طبعته الأولي أعيد طبعه مائة مرة في ايطاليا وحدها
ترجم " الأمير " الى معظم اللغات الحية فى شتى بلدان العالم ، وتفوق أعداد النسخ المطبوعة منه أي كتاب آخر منذ أختراع الطباعة ( ما عدا الكتب الدينية المقدسة ) . ومع ذلك ، ما زال الغموض يكتنف مكان حفظ المخطوطة الأصلية بخط مكيافللي ، ولا أحد يعرف عنها شيئاً. ومن مئات المخطوطات المستنسخة عن الأصل ، لم يتم العثور سوى على29 مخطوطة .
يرى البعض ان النجاح المدوي لهذا النتاج الفريد يرجع الى كونه تجسيداً لتمجيد الأستبداد وفكرة أنتزاع السلطة وتقويتها والبقاء فيها بكل السبل لأطول فترة ممكنة ، و دليل عمل للطغاة في كل مكان .
ولكن على النقيض من ذلك ثمة بين علماء التنظير السياسي والفلاسفة والمؤرخين ، من يرى ان الكتاب فضح أساليب الطغاة في الحكم ، وساعد الشعوب المناضلة في التخلص منهم . وكان فرنسيس بيكون ( 1561 – 1626 ) اول من أشار الى هذه الحقيقة حين قال عن مكيافللي : " نحن مدينون له ولأمثاله ممن كتبوا عما يفعله الأمراء فعلاً ، وليس عما يجب أن يفعلوه " .
واذا كان كتاب " الأمير " قد تعرض للشجب و الأدانة من قبل علماء الأخلاق وخاصة في بريطانيا وفرنسا ، فأن علماء السياسة يرون ان للسياسة قيمها و أخلاقيتها الخاصة ، التي تختلف عن الأخلاق والقيم السائدة في المجتمعات وخاصة المتحضرة منها ، وقد تتعارض معها في أغلب الأحيان ، وان مكيافللي هو المؤسس الحقيقي لعلم السياسة.
الفجوة بين السياسة والأخلاق والقيم الأنسانية ، لا يمكن تجاهلها ويعود الفضل في ذلك الى مكيافيللي ، الذي فتح عيون الناس على ما في السياسة من حقائق مرعبة .
ان ما يتميز به كتاب "الأمير " هو ان كل شخص يمكن ان يفسر مضمونه على هواه ويجد فيه ما يشاء من الآراء و المباديء والقيم المختلفة من التضليل والخداع الى الأسس الأولية لّليبرالية ، ومن تعاليم للطغاة الى مباديء النظام الجمهوري .
اعادة تقييم مكيافللي :
لم يسبق لكاتب أو مفكر - لا قبل مكيافللي ولا بعده – ان جسَد بكل هذا الوضوح : كيف يمكن ان تكون الحقيقة خطرة . " الأمير " لقي رواجاً هائلاً ، كما أسلفنا ، لأن القراء شعروا بمزيج من الأنبهار و الأشمئزاز . الأنبهار أمام بصيرة المؤلف الثاقبة ، والأشمئزاز من الأساليب المرعبة التي يتبعها الساسة على ارض الواقع .
يقول مكيافللي " الأمير لا يمكن ان يسمح لنفسه أن تكون له صفات الأنسان الجيد من اجل الحفاظ على وحدة وسلامة البلاد ، وكثيرا ما يضطر إلى القيام بأعمال تخالف المثل العليا ( الرحمة والولاء والإنسانية والأستقامة ) حتى انه غير ملزم بتنفيذ الوعد الذي قطعه اذا كان في غير مصلحته " .
وكتب الفيلسوف الأنجليزي( بيرتران راسل) عن مكيافللي في كتابه " تأريخ الفلسفة الغربية " يقول :
"استعاد الفكر السياسي لليونان وروما فعاليته مجدداً في ( الأمير) و( مقالات في العشرة كتب الأولى لـ تيتوس ليفيوس - Discourses on the First Ten Books of Titus Livius ) الذي سمي فيما بعد بـ ( المطارحات - The Discourses ).
مكيافللي مفكر بارز ، وهو رهيب أحياناً ولكن كان يمكن أن يتقاسم هذا المصير كثيرون لو تحرروا من الباطل .أنه يعلّم تحقيق الهدف سواء اكان جيدا او سيئا – واحيانا يثير وسائله الأدانة . ولكن عندما يصف أهدافه ، فأنها دائما جديرة بأستحسان الجميع ".
وذهب المؤرخ الروسي ( ايغور يفيموف ) أبعد من ذلك في كتابه " السر المخزي للامساواة " حيث يؤكد ان كل من قرأ مؤلفات مكيافللي وخاصة " الأمير" ، لم يكن بوسعه تجاهل ما فيها من هجاء .
لا ننسى ان مكيافللي كان له اسلوب فريد ويعرف كيف يخفي أفكاره ونواياه لخداع الأمراء الحاقدين ومعهم كثير من القراء ، ولكن الذين يرون في كتاب " الأمير " ليس هجاءأً ، بل مرشدأ تعليمياً للحكام ، محرجون بسبب اهميته الراهنة .
أقترن اسم مكيافللي طيلة قرون ، كما يقترن مصطلح المكيافيللية اليوم ( رغم اختلافهما الشاسع ) ، بالتسلط و الأستبداد والأنانية وتغليب المصالح الذاتية على المصلحة العامة والممارسة السياسية منزوعة الأخلاق والتنصل من الوعود و المواثيق واللجؤ الى التصفيات الجسدية للخصوم السياسيين وينسب اليه العبارة الملعونة " الغاية تبرر الوسيلة " .
ولكن كما حدث مع شخصيات تأريخية أخرى ، فان الأجيال اللاحقة ، اختارت من كتابات واقوال مكيافللي وعلى نحو أنتقائي ، تلك النتف الأكثر أثارة للجدل والأدانة والأستياء .، للأستشهاد بها و انتقادها وشجبها .كما اختار معظم الحكام من آراء ميكافيلي ما كان يناسبهم، وهم في العادة كانوا يتجاهلون الشروط والضوابط الكثيرة التي كان مكيافللي يشدد عليها بحماسة وعن ايمان مطلق، وهذه هي الميكافيلية بعينها.مما خلق صورة مشوهة لمكيافللي مختلفة تماما عن شخصيته الحقيقية .
يقول الكاتب المصري علي سالم في مقاله الممتع " نصيحة مكيافيللي.. وحكاية الصدفة في التاريخ "
« تخلص من هؤلاء الذين أوصلوك إلى الحكم » واحدة من أشهر نصائح مكيافيللي للأمير، وهي كما ترى للوهلة الأولى تتسم بالسفالة والانحطاط. لا أحد يتخلص ممن أوصلوه إلى الحكم إلا في حالة واحدة، هي أن يكون وغدا ناكرا للجميل. غير أني أطلب منك الترفق بأفكار الرجل، كما أطلب منك أن تنسى أنه مفكر سياسي وغد، ولو لعدة دقائق. عندها ستكتشف أن هذه النصيحة أخلاقية تماما، لأنها تتفق والمصلحة العامة؛ من المستحيل أن تجيد أصول الحكم وهناك من يطالبك في كل لحظة بتسديد دين كبير عليك، دين لا تعرف ولن تعرف مقداره. لو لم تتخلص من هؤلاء الذين أوصلوك إلى الحكم، فستفشل حتما في مهمتك، لأنك في كل لحظة ستجد نفسك مطالبا بإرضائهم وسد أفواههم وتغذية أطماعهم ومطامعهم والاستجابة لما يقدمونه لك من أفكار.
ستكون مضطرا لتمييزهم عن الآخرين، وبذلك تخلق لنفسك أعداء جددا في كل لحظة بلا ضرورة أو مبرر. هكذا ينصرف مجهودك أو الجزء الأكبر منه إلى الدفاع عن نفسك ضد أولئك الأعداء الذين يتكاثرون كالفطر، فلا تجد وقتا لإقامة العدل بين مواطنيك، أو حمايتهم من أعداء الداخل والخارج .... أي ستفشل كحاكم وأنت تعرف بالطبع عدد الحكام الفاشلين الذين علقوا على أعواد المشانق، أو كانوا محظوظين فتم سجنهم أو نفيهم فقط. هكذا ترى - يا عزيزي القارئ - أن نصيحة ميكيافيللي كانت أخلاقية تماما إذا تأملناها من منظور رجل الدولة.
( جريدة " الشرق الأوسط " 9 ديسمبر 2012 العدد 12430 )
الدراسات العلمية الجادة التي نشرت مؤخراً في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وروسيا تشير الى ان الصورة المرسومة في أذهان الكثيرين عن أحد ألمع العقول تألقا وعمقا في عصر النهضة الأوروبية ، لا تشبه صورته الحقيقية ، التي تعرضت كثيراً الى التشويه والتحريف ، ليس فقط من قبل خصومه السياسيين خلال حياته وبعد وفاته ، بل حتى على أقلام العديد من الباحثين في علم السياسة والفلسفة والتأريخ ، الى درجة بات من الصعب التعرف على شخصيته وآرائه ومواقفه الحقيقية .
وأخيراً لا بد من التنويه ان عبارة ( الغاية تبرر الوسيلة ) لا تعود الى مكيافللي . البعض يقول انها لـ(أسكوبار) اليسوعي، والبعض الآخر ، على العكس من ذلك يقول أنها ، تعود للبروتستانت ، كأدانة لليسوعيين ، ولكن على ما يبدو ، ان اول من نطق بهذه العبارة هو الكاتب المسرحي اليوناني سوفوكليس في مسرحية "إلكترا" و كان ذلك في عام ( 409) قبل الميلاد .