في بريطانيا توجد هيئة بين مهماتها مراقبة مواد البث الإذاعي والتلفزيوني وتلقّي الشكاوى عن هذه المواد، من أجل ضمان التزام محطات الإذاعة والتلفزيون بأخلاقيات العمل الإعلامي التي تقضي في ما تقضي بتحريم التحريض على العنف والإرهاب، والسبّ والقذف، والتمييز العنصري والجنسي والديني والمذهبي، والتجاوز على الحريات الفردية وانتهاك حرمة الحياة الشخصية.
الهيئة المعروفة اختصاراً باسم "اوفكوم" (OFCOM) مستقلة عن حق (وليست بالاسم كما عليه حال هيئاتنا المستقلة اسماً والخاضعة في الواقع لسلطة ونفوذ الحكومة، وبالذات رئيس الحكومة) وتتشكل من شخصيات اجتماعية مرموقة.
هذه الهيئة قضت أخيراً بتغريم قناة تلفزيون إسلامية تعمل في بريطانيا 85 الف جنيه استرليني (حوالي 130 الف دولار أميركي) بسبب ما وصفته بـ "تحريض على العنف" قامت به القناة عبر أحد برامجها. ورأت الهيئة ان قناة (نور) انتهكت الضوابط والأخلاقيات عندما قال أحد مقدمي البرامج، وهو رجل دين إسلامي، ان من المقبول بالنسبة للمسلمين أو حتى من واجبهم أن يقتلوا أي شخص يُبدي عدم الاحترام للنبي محمد. وما قاله بالنص رداً على سؤال لأحد المشاهدين "لا يوجد شك على الإطلاق في ان عقوبة من يُبدي عدم الاحترام للنبي محمد هي الموت". ورأت الهيئة ان مقدم البرامج ارتكب انتهاكاً خطيراً، لكنه لم يصل الى الدرجة التي تُحتّم إغلاق القناة.
حكم الهيئة لا يتعلق بالنبي محمد أو برجل الدين الإسلامي مقدم البرنامج ولا بالقناة الإسلامية، فلو كان المتحدث رجل دين مسيحياً وقال الكلام نفسه رداً على سؤال بخصوص من لا يُبدي الاحترام للمسيح أو للنبي موسى أو للملكة اليزابيث الثانية عبر قناة بي بي سي أو سكاي أو آي تي في، لكانت الهيئة قد اتخذت القرار عينه، فالمسألة هي التحريض على القتل على الأرض البريطانية من قناة تلفزيونية تعمل من الأراضي البريطانية، وهذا أمر محرّم في بريطانيا، وسائر الدول المتحضرة، مثلما هو محرّم تحقير الأديان والأجناس والقوميات ولون البشرة وجنس الإنسان. وبتقاليد وقواعد وأنظمة وقوانين من هذا النوع وبقرارات كقرار افكوم، وبالتعليم منذ الصغر، تحفظ الدول المتحضرة سلمها الأهلي وتوطّد أمنها الاجتماعي.
يومياً يجري التحريض على القتل والعنف والإرهاب عبر الأثير العراقي مئات المرات، ولا من يعترض أو يحكم بالغرامة. لا أتابع إلا قليلاً محطات الإذاعة المحلية، لكنني استطيع الزعم بان كل القنوات التلفزيونية، بما فيها الحكومية (شبكة الإعلام) تبث موادّاً تنطوي على تحريض مباشر أو غير مباشر على العنف والإرهاب، ويمرّ كل شيء من دون مساءلة ومن دون تحكيم القضاء من أجل خلق تقاليد نحن في أمس الحاجة اليها في هذه الحقبة التعيسة من تاريخنا .. تقاليد تحرّم كل شكل من أشكال التحريض على العنف والإرهاب والتمييز وتمنع السبّ والقذف والتشهير والتحقير.
هل يُعقل أن تُنفق كل هذه المليارات على الجيش والشرطة والأسلحة والذخائر وأن تتخذ أشد وأقسى الإجراءات الأمنية بذريعة مكافحة الإرهاب، فيما طاحونة التحريض على الإرهاب تدور أربعاً وعشرين ساعة في اليوم؟ .. يُعقل ! ولماذا لا يُعقل مادام أكبر أمراء التحريض وسرقة المال العام يُستقبل استقبال الفاتحين الظافرين في بغداد وتُسقط عنه الأحكام القضائية الباتة، فقط لأنه قدّم فروض الطاعة لمن يرى نفسه ولي الأمر؟ .. هل نسي أحد اسمه؟
مقالات اخرى للكاتب