كنا نتحدث قبل بضعة أيام عن الرجل الذي كان له الفضل بتشغيل وتفعيل أول حاسبة مينائية في العراق, ثم جاءنا من يزيل الغبار عن الأوراق التي طواها النسيان, ويقدم لنا الوثائق التاريخية المخفية عن الرجل الآخر, الذي كان له الفضل بتشغيل وتفعيل أول حاسبة في العراق على وجه العموم, واتضح لنا فيما بعد أن وزارة النقل والمواصلات كانت هي التي أخذت زمام المبادرة في الجولتين الرائدتين بتعاقدها مع الشركات الأوربية المجهزة للحاسبات الكبيرة. .
لقد تعرفنا في مقالة سابقة على عرّاب الحواسيب المينائية, الأستاذ والفنان المتعدد المواهب (سالم عبد الله الحسَّو), الذي تبوأ مركز الطليعة عام 1970, فحمل راية الريادة التقنية في التعامل الحسابي المبرمج مع عمليات الشحن والتفريغ داخل الموانئ العراقية, وكان هو الذي رسم الخطوة الأولى نحو الاعتماد على الحواسيب المركزية الذكية من أجل تقديم أفضل الخدمات المينائية وأسرعها وأكثرها دقة. .
وسنتعرف هنا على الرجل الآخر الذي أحرز قصب السبق عام 1965 لوزارة النقل والمواصلات في تبني فكرة الحواسيب المركزية, وتطبيقها في ضبط وتدقيق حسابات (مصلحة سكك حديد الحكومة العراقية). .
من المفارقات التاريخية أن هذا الرجل هو الأستاذ عبد الغفور النعيمي رحمه الله, نجل الشهيد العراقي البطل حسين بن السيد حسن النعيمي, الذي ثأر لكرامة العراق وأهله, وذاد في الدفاع عن أرضه وعرضه, وتحدى قوى البغي والعدوان, فأنعم الله عليه بالشهادة عام 1931. .
والملفت للنظر أن الرجل الحاسوبي الأول والرجل الحاسوبي الثاني كانا من الفنانين الموهوبين, ومن أصحاب التوجهات الفنية المتعددة, فقد كان عبد الغفور (رحمه الله) يتقن رسم الخط العربي, لاسيما خط الجلي الديواني, ويهوى العزف على الآلات الوترية (العود والكمان والماندولين), وكان من تلاميذ الموسيقار الراحل الشريف محيي الدين حيدر, ويمضي ساعات الفراغ في العناية بالأزهار النادرة (السايكس والمنوليا). بينما ظل الأستاذ سالم عبد الله الحسَّو (أمد الله بعمره) يمارس حتى يومنا هذا هواياته المتعددة في النحت والتمثيل والإخراج والتصوير الفوتوغرافي والرسم التشكيلي. .
اليتم المبكر والرحيل إلى البصرة
ولد عبد الغفور في مدينة بابل (الحلة) في الثالث والعشرين من شهر تموز عام 1923, وكان والده يعمل مديراً لمحطة كهرباء سدة الهندية, لكنه سرعان ما ذاق طعم اليتم قبل بلوغه التاسعة من عمره. فأصيب بصدمة كبيرة بعدما نفذوا حكم الإعدام بأبيه, فقررت أمه مغادرة مدينة بابل (الحلة) والتوجه نحو البصرة, حاملة معها أشقائه وشقيقاته (بنتان وثلاثة أولاد), كان عمه السيد علي بن السيد حسن النعيمي مديراً لدائرة البريد والبرق في البصرة, وله منزلة اجتماعية مرموقة بين العوائل البصرية الراقية, فوفر له ولأشقائه ما يحتاجونه من عناية ورعاية ودعم وحنان, وأولى اهتماما خاصا بعبد الغفور, الذي ظهرت عليه علامات الفطنة والتفوق, فتكفله عمه ورعاه, وألحقه بالدراسة الابتدائية, فتعلق الفتى منذ سنواته المبكرة بالعلوم والمعارف, وأنهى دراسته الابتدائية من دون تعثر, ثم انتقل للدراسة التكميلية في ثانوية العشار.
شاءت الأقدار أن يتعرض عبد الغفور مرة ثانية لليتم بعد وفاة عمه بالبصرة في ثلاثينيات القرن الماضي, في الوقت الذي كان فيه عبد الغفور وأخوته الصغار يمضون بعض الوقت مع أمهم عند أخوالهم في سوريا, لم يكن عمه متزوجاً, فانتهز الخدم خلو الدار من ذويه, واشتركوا مع الحارس في نهب مقتنياته ومدخراته, ولاذوا بالفرار. .
عاد عبد الغفور بعد وفاة عمه إلى بغداد, فأكمل دراسته في إعدادية الكرخ, وتخرج فيها, وعمل بعد تخرجه في مصلحة السكك الحديدية بدرجة كاتب, ثم ارتقى في السلم الإداري نحو القمة, وتدرج شيئا فشيئا حتى أصبح مديراً لإدارة معامل الشالجية بدرجة (مميز), قفز بعدها إلى الإدارة العامة في بناية المحطة العالمية الكبرى ببغداد, وكان وقتئذٍ في طليعة الإداريين الأكفاء المشهود لهم بالذكاء, فرشحته وزارة النقل والمواصلات عام 1965 ليكون هو المدير الوطني لأول حاسبة الكترونية في قطاع السكك الحديدية, وكان ذلك في عصر مدير السكك الأسبق العميد الركن خالد سعيد المدفعي, فتعاقدت الوزارة مع شركة (ICL) البريطانية لتجهيز مصلحة السكك الحديدية بحاسبة عملاقة, وأرسلت كوكبة منتخبة من موظفيها برئاسة عبد الغفور النعيمي لتلقي الدورات التأهيلية في مختبرات الشركة المجهزة بلندن. .
كانت الكوكبة مؤلفة من: أسامة الجلبي, وصلاح رؤوف نجيب, وزهير عزيز جبر الزيدي, عادوا بعدها ليؤسسوا النواة الأولى للهيكل التقني والإداري لأول حاسبة الكترونية في العراق, وجرت مراسيم الافتتاح في بناية المحطة العالمية الكبرى بحضور وزير النقل والمواصلات الأسبق الأستاذ عبد الستار الجميلي, ومديرها العام خالد سعيد المدفعي, ومدراء التشكيلات الوزارية الأخرى. .
حققت الحاسبة المركزية الجديدة قفزات نوعية باهرة في إعداد وتنظيم بطاقات الرواتب, وبطاقات المواد المخزنية, وقوائم الكهرباء لصالح وزارة الصناعة, وقوائم بطاقات الأحوال المدنية, ولم تكن متقوقعة في خدمة تشكيلات وزارة النقل والمواصلات, بل كانت منفتحة في التعامل المرن مع جميع المؤسسات الحكومية, وعلى وجه الخصوص المؤسسات التعليمية منها. .
من ضحايا بلدوزرات وأد الكفاءات
كان من الطبيعي أن يصبح هذا الإنسان المبدع هدفاً للغارات الكيدية المتكررة, التي دأب على افتعالها أصحاب الوجوه الزئبقية ضد مَنْ هو أفضل منهم, وأكفأ منهم في المعايير الوطنية والوظيفية والإنسانية, فالغيرة والحسد والحقد هي الأوعية الخبيثة, التي تُصنع فيها قنابل الإطاحة بذوي الكفاءات العليا, وهي المعاول الشريرة, التي برعت بتهميش أصحاب المهارات النادرة.
فصدرت أوامر الإقصاء من داخل مصلحة السكك على أثر استبدال مديرها (خالد المدفعي) بمدير جديد خلفاً له, وتمت إجراءات الإقصاء من دون علم الوزارة, فأطاحوا بالصرح الذي شيده النعيمي, وأبعدوه إلى مخازن الشالجية ليعمل بدرجة أدنى في مكان يتناقض مع استحقاقاته الوظيفية والمهنية, فما كان منه وهو ابن الرجل الشريف الأبي, الذي وقف وقفته الشجاعة بوجه الموت دفاعاً عن كرامة العراق إلا أن يرفض الرضوخ لإرادة الأغبياء, فتوسط عند صديقه وزير الصحة الدكتور عزة مصطفى, ليقنع وزير النقل والمواصلات (سعدون غيدان) بقبول إحالته إلى التقاعد, فكتب طلباً رسمياً مقتضباً, وضعه بيد نجله (علاء الدين), وطلب منه إيصاله إلى الدكتور عزة, وهكذا حصلت الموافقة بإحالته إلى التقاعد, فأخمدت الوزارة بقرارها هذا شعلة وطنية أخرى من المشاعل المتوهجة بنور النزاهة والإبداع والتألق. .
الانطلاق نحو فضاءات القطاع الخاص
وهكذا غادر قلعته الحاسوبية مكرهاً, فانفتحت بوجهه فضاءات التحليق الحر في ميادين التجارة التقنية, وسنحت له فرصة العمل وكيلا لشركة (ICL) المنتجة للحواسيب البريطانية العملاقة, والتي تغير اسمها لاحقا إلى شركة (ICT), ثم أصبح وكيلاً تجارياً لشركة (MLW) الكندية المتخصصة بصناعة قاطرات الديزل, وصار مديراً لشركة تجارة المواد الفنية ذات المسؤولية المحدودة. .
وما أن صدر قرار اللجنة الاقتصادية بإلغاء الوكالات الخاصة, حتى عرضوا عليه وكالة من وكالات القطاع العام, لكنه رفضها بثبات, وقرر تصفية أعمال شركته, فانفتحت بوجهه مرة أخرى فرص العمل مع الشركات التشيكية بدرجة مدير, فعمل مديرا لفروعها في العراق, نذكر منها يراكونفست, وتكنو أكسبورت, التي نفذت مدرج مطار القاعدة الجوية في الناصرية, ومشاريع المياه العذبة في الكحلاء والمشرح, وبناء مجموعة من الجسور والقناطر, ونفذت أيضاً مشاريع المسح الهيدروغرافي لنهر دجلة من القرنة إلى بغداد, بيد أن تلك الشركات أغلقت مكاتبها وغادرت العراق إلى غير رجعة بعد حرب الكويت, فتفرغ عبد الغفور إلى أسرته وأولاده وبناته, وكان يمارس هواياته المحببة في أوقات الفراغ. .
الرحيل إلى العالم الآخر
انتقل رحمه الله إلى جوار ربه عشية يوم 31 من تموز عام 2002, قبل بضعة أشهر من سقوط بغداد بيد الطغاة, الذين تسببوا في إعدام والده في الربع الأول من القرن الماضي. .
رحل الرجل الهمام, وتألمت بغداد لغيابه, وحزنت على فراقه الجموع الغفيرة من محبيه ومريديه, ومن الذين تتلمذوا على يده, فترك وراءه خمسة أبناء, أكبرهم علاء الدين عبد الغفور, وهو عسكري سابق محال إلى التقاعد منذ عام 1978, ويعيش الآن مغترباً في كاليفورنيا, يليه نجله (ضياء الدين) يحمل شهادة الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية من فرنسا والماجستير من بريطانيا, كان أستاذا في الجامعة التكنولوجية في الثمانينات, وهو الآن مغترب في فرنسا, يليه نجله (صفاء الدين) وهو يحمل شهادة الماجستير في الهندسة المعمارية من جامعة تكساس, يعمل حاليا في جامعة فيلادلفيا بالأردن, يليه نجله (بهاء الدين) وهو بكالوريوس بالإحصاء من الجامعة المستنصرية ومستقر في بغداد, يليه (محمد) وهو حاصل على الدبلوم من معهد النفط في المحركات التوربينية, والبكالوريوس في الآداب (انجليزي) من المستنصرية, يعمل حاليا مع الفريق الدولي للأمم المتحدة في قوات حفظ السلام بنيروبي في كينيا, وللسيد عبد الغفور ثماني بنات جميعهن خريجات ومتزوجات ومربيات فاضلات, مستقرات حالياً في العراق. اما آخر أشقاء السيد عبد الغفور فهو (عبد اللطيف) وله من العمر الآن (80) سنة, ويسكن في إحدى والولايات الأمريكية. .
ختاما نقول كان لنا شرف الكتابة عن عملاق آخر من عمالقة العراق, رجل ينحدر من أسرة علوية هاشمية حجازية صحيحة النسب, كان أبوه رمزا من رموز الثورة العراقية المناوئة لقوات الاحتلال, فضحى بنفسه واستشهد دفاعا عن أرض العراق وكرامة أبناءه. .
لقد حاز عبد الغفور على موقع الصدارة بترؤسه أول حاسبة كبيرة في العراق, وكان في الوقت نفسه من المربين الفضلاء, والإداريين الأمناء, ومن أصحاب الهامات المرفوعة, والقامات الفارعة. . .
وسوف نواصل الحديث بهذا النفس الوطني المتحرر, وبهذه الروح العراقية المتجردة من الزيف, فنحدثكم عن عباقرتنا المنسيين في محطات الغربة والاغتراب, ونسلط الأضواء على انجازاتهم ومواقفهم الوطنية في مقالة قريبة أخرى بإذن الله.
فالحديث عنهم ذو شجون
مقالات اخرى للكاتب