العراق تايمز: كتب حسين الساعدي
قد يصحو الإنسان فجأة على حقائق لم ينتبه اليها رغم أنها كانت شاخصة أمامه منذ مدة طويلة ، ربما بتأثير الظروف أو النشأة التي تضع غشاوة على عينيه وعقله بشكل مقصود أو غير مقصود ، فيبقى كالطير الذي وُلد في قفص لايعي معنى الحرية لأنه لم يذق طعمها ، وما أكثر الطيور العراقية التي وُلدت في الأقفاص!
لكن الصدمات قد تجعل الإنسان يصحو في بعض الأحيان ، وكلما كانت الصدمة أشد وأقوى ستكون هناك فرصة أكبر في صحوة الإنسان ، وصدمتي باستشهاد أخي الذي تطوع في الحشد الشعبي كانت هي الأقوى في حياتي ، شعرتُ بأن يداً امتدت لتهزني بعنف فتوقظني من غفوتي الطويلة ، فعندما تلقيت ذاك النبأ الذي كسر ظهري كانت امامي صورة المرجع "الاعلى" علي السيستاني، تلك الصورة التي علقها أخي الشهيد قبل سنوات ، أثارت في داخلي تساؤلات بريئة قد يحسبها البعض خطيرة .
فتحتُ عيني على هذه الدنيا وأبي وأمي يقلدان المرجع الأعلى علي السيستاني ، وفي مرحلة مبكرة من دراستي المتوسطة اقتنعتُ به كمرجع ديني ، وكان في نظري رمزاً دينياً روحياً بعيداً كل البعد عن السياسة ، ظننتُ أنه يترفع عن العالم الدنيوي ولهذا السبب تجاهل حماقات صدام حسين ، ولم أكلف نفسي عناء السؤال عن الأسباب التي جعلت الطاغية لايمس به ولايتعرض له بسوء ، بل ويزوره ويلتقط معه صورة تذكارية !
بعد سقوط النظام البعثي ، باتت المرجعية تتولى إدارة البلد بالكامل (وعندما نقول المرجعية نعني السيستاني) ، فالقائمة الانتخابية 555 على سبيل المثال حظيت بمباركة المرجعية ، وأية قائمة لاتحظى بمباركتها ممنوع علينا نحن الشيعة أن ننتخبها ، فالمرجعية بالتاكيد هي الحامي لمصالحنا بعد أن كنا مهمشين (سياسياً) في زمن النظام البعثي ، والمرجعية هي الضامن لنا بأن نمسك بزمام السلطة حتى ظهور الإمام الحجة باعتبارنا الأغلبية ، بغض النظر عن كون هذه الأغلبية قادرة على إدارة البلد أو أن فيها قادة يجمعون بين عنصري العفة والخبرة .
عندما تعرض مرقد الإمامين العسكريين عليهما السلام لاعتداء إرهابي في شباط 2006 ، اشتعل البلد ولم ينطفئ ، رحلت من منطقتنا عوائل سنية جمعتني بابنائها صداقة منذ الطفولة ، ومن رفض منهم الرحيل تعرضوا للقتل والخطف ، وأقسم بالله وبحياة أطفالي ان كل أصدقائي (السنة) الذين تعرضوا للتهجير والخطف والقتل كانوا أبرياء لايذبحون دجاجة ، وكلهم مثقفون وابناء عوائل معروفة ، أحدهم كان طالباً في كلية الطب والإبن الوحيد لأهله ، عثروا على جثته وقد ثقب رأسه بالدريل ، هؤلاء أعرفهم فرداً فرداً ، لم يفجروا مرقد الإمامين عليهما السلام ولم يؤذوا أي شيعي قط .
في خضم تلك المذابح الوحشية اكتفت المرجعية ببيان خجول دعت فيه الى وحدة الصف ، ولم تصدر فتوى بتكفير القتلة ، ربما لان المرجعية صمام الأمان للعراقيين ، حقاً لقد كانت صمام أمان بامتياز ، بدليل الجثث التي تفسخت في الطب العدلي ببغداد في عام 2006 وباتت روائحها تصل الى مسافة بعيدة لأن الثلاجات لم تعد تستوعب هذه الأعداد الهائلة من القتلى ، كما ان صمام الأمان جلس يتفرج على ستة ملايين عراقي هاجروا الى الخارج خوفاً من الموت على أيدي ميليشياتنا الشيعية المقدسة ، اما الامريكان ، فوالله خلال الاسبوع الاول للمجازر لم أشاهد أية سيارة همر امريكية في الشوارع ، وكأنهم تعمدوا الاختفاء ليتركوا العراقيين يُذبحون كالخراف على أيدي اخوتهم العراقيين .
ومن الناحيتين السياسية والإدارية ، سار البلد نحو الهاوية ، فالقوائم التي باركتها المرجعية كانت تضم حفنة لصوص جاءوا للنهب فقط ، والى يومنا هذا والعراق يزداد فقراً وتخلفاً وقادة البلد الذين باركتهم المرجعية يزدادون ثراءً ، لا تعيينات للعاطلين ، لا كهرباء ، لاخدمات ، لا إعمار ، لاشيء ، ولكن لابد أن نرضى بواقعنا البائس ، فقادة البلد يحضون بمباركة المرجعية الرشيدة .
عندما اخبروني باستشهاد اخي وهو يقاتل الدواعش (الذين صنعتهم أمريكا) ، تذكرتُ ما قرأته عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) عندما كان يخوض المعارك بنفسه ، وفي إحدى المعارك كسروا رباعيته (أسنانه الامامية) ، سألتُ نفسي : إذا كان السيستاني كبيرا في السن وغير قادر على القتال ، فلماذا لايتواجد على الأفل في مكان قريب من جبهات القتال ليخطب في مجاهدي الحشد الشعبي ويحثهم على قتال الدواعش ليكون لهم حافزا معنويا ؟! أليس الواجب علينا أن نقتدي برسول الله ؟! لماذا لايجتمع بهم في النجف قبل ذهابهم للجهاد ؟!
وبعيداً عن جبهات القتال ، لماذا سماحة المرجع لايؤم المصلين كما كان يفعل النبي؟ لا أتذكر أن سماحة السيد صلى بنا إماماً في يوم من الأيام ، ولا حتى ابنه رجل الأعمال الملياردير محمد رضا السيستاني ، الذي يتحكم باقتصاد العراق ويحثنا على الذهاب الى الأنبار لتحريرها ، فالسيد محمد رضا وللأسف أبعد ما يكون عن جبهات القتال .
وعندما ضاق الحال بالعراقيين وقرروا الخروج في تظاهرات في العاصمة وفي المحافظات الجنوبية ، توجست المرجعية خيفة من هذا الطوفان ، سيما وأن انطلاقة التظاهرات في البصرة كانت تحمل طابعاً علمانياً ، كانوا شباباً بعمر الورد ، متسلحين بثقافة جيدة ، يرفضون أن يكونوا إمعاتٍ أو سذج يقبلون أقدام رجال الدين ويسكتون عن (هفوات) السادة كهفوة الشيخ مناف الناجي وكيل المرجع الأعلى في ميسان ، كانوا شباباً تواقين للعيش بكرامة في ظل دولة تمنحهم حقوقهم كبشر ، فهؤلاء تسلخ جلودهم حرارة الصيف لأنهم لايمتلكون مولدات كهرباء كالتي موجودة في بيت (السيد) ، وكردة فعل أولية على هذه التظاهرات التي باتت تهدد العمائم المقدسة ، ألقى سماحة السيد صدر الدين القبانجي خطيب جمعة النجف خطبة منفعلة دعا فيها العراقيين إلى عدم المشاركة بالتظاهرات، معتبرا أن الهدف وراءها هو العودة إلى "الحكم اللاديني" ، ولم يطفئ غضبه سوى خروف مشوي في العشاء وحبة فياغرا تساعده على بذل مجهود يمكنه من هضم العشاء !
هذه المرة ، نظرت الى وجه القبانجي والى صورة أخي الشهيد الذي أرسله السيستاني لمحاربة حفنة من الأفغان والتونسيين والسعوديين في محافظة صلاح الدين ، وسألتُ نفسي مرة اخرى : إذا كان عبدة الفياغرا والخراف المشوية يسيطرون على المحافظات الشيعية والمحافظات السنية ، من المتهم بقتل أخي؟!
كان أخي عاطلاً عن العمل ، يتمنى حصول أية معجزة ليعمل ، حتى لو كان الراتب لايتعدى مئة ألف دينار ، فقط ليقول لحبيبته أنه حصل على عمل ، في النهاية نفد صبر البنت فتزوجت شخصاً آخر ، فقرر أخي تلبية نداء المرجعية والذهاب الى أحضان الموت !
قبل يومين ، تذكرتُ أن أخي قد تكون عليه ديون لصاحبة الدكان الذي في شارعنا ، قصدتُها لأسألها عما إذا كان أخي مديناً لها بشيء ، فوجدت في دفترها أن عليه مئتان وخمسون دينار فقط ثمن علبة سفن آب من الحجم الصغير ورفضت استلامها وطلبت مني أن أتصدق بها على روحه ، أما السجائر فقد كان المرحوم أقلع عنها ليس لأضرارها بل لأنه كان لايمتلك ثمن علبة السجائر .
كانت أمي وهي على فراش الموت قد أوصتني بأخي خيرا ، لكنه كان عفيف النفس زاهدا لايطلب شيئا ، يساعد كل الناس دون مقابل ، وفي النهاية ضحى بنفسه دفاعا عن المذهب وتلبية لنداء المرجعية ، صار وقوداً لحرب عصابات لاناقة له فيها ولا جمل ، مات أخي ليعيش اللصوص والمجرمين وأهل الدجل الذين يعتاشون على معاناة الفقراء .
واليوم ، أرى أخي الشهيد ينهض كالمارد من قمقمه ، وفي عملية يعجز العلم عن تفسيرها استنسخ أخي نفسه ، حتى باتت توجد منه مئات آلاف النسخ ، أخي ذاك الهادئ الوديع الذي لايؤذي نملة ، عاد من الموت ثائرا مجنونا انتشر في ساحة التحرير وفي شوارع بغداد والمحافظات الجنوبية ، يحمل الآلاف من أعلام العراق ، تخيلوا كيف يشعر انسان خسر أخاه وهو ينظر اليوم الى مئات الآلاف من النسخ عن أخيه .
عاد اخي من موته ، عاد غاضباً ، يريد الانتقام ممن سلبوه حقه في الحياة ، عاد أخي لينتقم