هكذا، مع كلَّ موجة إرهابٍ تطالنا، يُثارُ السؤال ذاته؛ من هو عدونا بالضبط وكيف يمكننا تمييزه في الفوضى التي تحيط مجتمعنا؟ هل علينا انتظاره من هذه الجهة أو تلك؟ أم علينا البحث عنه في كومة قش الكراهية الذي ننام عليه؟
أسئلة أثارتها عندي التماعة كتبها صديقي أحمد سعداوي في صفحته على الفيسبوك، إذ علّق قائلا أن "المسألة مع الإرهابين ليست سهلة وواضحة كما يقول الشاعر الشعبي سمير صبيح"، وكان الأخير قد قال متهمكا من كثرة السيطرات، داعيا للهجوم على بؤر الإرهاب: ناصب سيطرة متانيهم يطلعون.. طب انته عليهم.. خلصت العطوة ! ثم يستدرك سعداوي قائلا أن الأمر ليس بهذا التبسيط: "هي حرب عصابات وليست حرب جيوشٍ نظامية، وابن مدينتك وجارك اللي من طينتك مشتركٌ فيها".
الحقّ أنني ابتسمت وأنا أطالع هذا الرأي كمقابل لدعوة شعبية عبّر عنها سمير صبيح، فما قاله سعداوي، كنت سمعته نصا من سائق تكسي يسكن مدينة الصدر حدّثني عن تفجير المأتم فقال أن الإرهابيين استخدموا سيارة مفخخة وعبوتين ناسفتين من جهتي السرادق، وأن رجلا وضع السيارة قرب فتحة الخيمة ثم دخل كي يقدّم العزاء، وما هي إلا دقائق حتى انفجرت السيارة ومعها العبوتان، فتحوّل المأتم إلى مجزرة. كان الشاب يتحدث بحرقة معربا عن اعتقاده أن ثمة في القطاع الذي جرى فيه التفجير "علّاسة" - مخبرين - من أهل المنطقة، وإلّا فمن الصعب أن يأتي شخصٌ من "ذيج الواجهة" حسب تعبيره ويرتكب الجريمة. ثم استطرد كي يقنعني - يا خويه شمعرفه بقطاعات المدينة، شمفهمه، هذا منّه وبينه. ولكي يقرّب الموضوع أكثر قال - يعني هسه آني ويكللولي روح فجّرْ فاتحة بالموصل، شمدليني عليها، شمعرفني بتقاليدهم، بلهجتهم، بعدين ارتبك، ويمكن بس واحد يعاين بوجهي أعوف السيارة وأشرد!
منطقٌ سليمٌ رغم عفويته، وهو يناقض تماما منطق الخطط العسكرية المعتمدة على تطويق المدن والإكثار من نقاط التفتيش، لجهة أنّ هذه السيطرات لا تطارد أناسا ذوي وجوهٍ خضرٍ مثلا كي تميزهم بعد إلقاء نظرة على السيارات وراكبيها. كلا، إنما هي تحارب أشباحا لا تُرى إلّا في لحظة التفجير، فهي إذن صاحبة المبادرة كونها تختار المكان والزمان ونوع السلاح وطريقة الهجوم، بينما القوات الأمنيّة لا تملك سوى الإنتظار. ولهذا تشيع حاليا الدعوة الشعبية بإنهاء هذه المرحلة، مرحلة ردة الفعل، التي تحوّلت معها القوات الأمنية إلى ما يشبه ملاكما مترهلا يتلقى اللكمات من آخر "رشيق" وسريع الحركة، يرقص كالفراشة ويلسع كالنحلة حسب وصف محمد علي كلاي الشهير. أتذكر من فيلم "الناصر صلاح الدين" ليوسف شاهين مشهدا مثيرا؛ في إحدى الليالي، يأمر القائد أتباعه بخلع دروعهم الثقيلة وخوذهم الحديدية، ثم يباغت عدوه بهجمة لاذعة. كان العدو ثقيل الحركة ولا يكاد يقوم من الأرض حتى يبغته فارسٌ كأنه الريشة بطعنة رمح. أسلوب إخراج يوسف شاهين للمشهد كان عبقريا، في الواقع، إذ عمد إلى تقطيع اللقطات بطريقة جدّ سريعة، مع إيقاف للصورة مع كل طعنة قاتلة. لعلّ مقصد سمير صبيح هو هذا؛ دعكم من انتظار الشبح وسارعوا بالهجوم عليه، وبما أنَّ الأخير يتخفى بيننا معتمدا على "علّاس" يعيش بين ظهرانينا، سواء في مدينة الصدر أو الأعظمية أو الدورة، فيتوجب إذن أن يكون الهجوم استخباريا ليجانس عدونا؛ مثلما الإرهابي شبحٌ لا يراه الحارس، كذلك على الحارس أن يكون شبحا كي لا يراه الإرهابي، مثلما "العلّاس" يقدم الإحداثيات للإرهاب، على السلطة أن تصنع "علّاسيها" بطريقة تشبه ما يجري في كل دول العالم. حينها فقط يمكن أن يتحقق العزل الذي يشير له إحمد سعداوي ويتبيٰن لنا "حرامي البيت" خاصتنا، الذي هو من طينتنا، وهذه الأخيرة ليست طاهرة بالمطلق ولا نجسة بالمطلق.
نعم، "العطوة" - الهدنة - يجب أن تتوقف، ولكن ليس قبل نزول الاستخبارات في الخطوط العميقة للعدو، فتأمل أنجاك الله من الشرور.
مقالات اخرى للكاتب