في مناقشته أسباب ظهور هتلر في ألمانيا يكتب كارل يونغ مشيرا إلى ذنب الشعوب في صنع الدكتاتوريات أنه "لو تفهمنا الذنب الجماعي وسلّمنا به لخطونا خطوة عظيمة إلى أمام، لكن الفهم وحده غير كاف للشفاء، تماما كما لا يشفى العصابي بمجرد فهم أسباب عصابه".
إشارة الرجل واضحة فيما يتعلق بالألمان فهو يعتقد أن ثمة ذنبا جماعيا يتعدى ظهور فرد نصف مجنون آمن أنه يختصر شعبه وبلده، بل إنّ هناك سياقات حاضنة لمثل هذه الظواهر هي المسؤولة أولا وأخيرا عن ولادة الطغاة وعبادتهم. يونغ يعتقد أن انحطاط الألمان إلى الدرك الأسفل من العبودية لم يكن ليحدث دون توفر شروط له، وأهم هذه الشروط هي فقدان فطرة حفظ الفردية، وهذا الفقدان يتناسب طرديا مع الاعتماد على الدولة أو الجماعة أو الحزب؛ بقدر ما يعتمد المرؤ على الدولة بقدر ما يفقد من فرديته، وبقدر ما يوهم نفسه أن هناك من يحميه ويعيله، بقدر ما يتحول إلى إنسان عاجز، خائف، وفاقد الثقة بنفسه. يقول يونغ : "الاعتماد على الدولة يعني تحول الامة كلها الى قطيع من الغنم معتمدة دائما على راع يسوقها الى المراعي الخصيبة، لكن عصا الراعي سرعان ما تتحول الى قضيب من الحديد والرعاة سرعان ما ينقلبون الى ذئاب". إن هذا حدث ويحدث في كثير من شعوب العالم لكن ميزة ألمانيا، كما يقول، هو أن حامل المسؤولية كان مجنونا أو شبه مجنون اسمه هتلر، ولذا يستغرب أشدَّ الاستغراب قائلا: "أي منظر يبعث على الأسى أكثر من تنفس ألمانيا كلها الصعداء عندما أعلن مجنون بالعظمة: أنا أتحمّل المسؤولية".
ما جرى في العراق كان شبيها؛ ابتداءً من بداية السبعينيات، بدأت الفردية التي تمتع بها العراقيون في العهد الملكي وحتى نهاية الستينيات تذوي شيئا فشيئا أمام صعود روح الاعتماد على الدولة والذوبان في "قيادتها الحكيمة"، هذه القيادة التي شرعها حتى خصومها اليساريون وساروا في ركبها حتى نهاية السبعينيات، أي إلى أن توضحت ملامح الراعي وتم الاعتراف به، جبرا أو طوعا، بوصفه "أبا" للجميع، ولكن الأب هذه المرة بدا كما لو كان مزدوج الوظيفة، فهو الحامي والقاتل، المعطي والآخذ، المحيي والمميت، وهو قبل كل شيء، الراعي الأحد الصمد، الممسك بالعصا الشرعية الوحيدة التي تقودنا في دروب الحروب والسلام، هو العارف بمصلحة الجماهير، المتكفل برعايتها، وعلى الجماهير أن تسمعه وتطيعه وبخلاف ذلك يعاقب المتمردون بالموت أو الطرد من بيت العائلة.
نعم، مثلما كان هدف هتلر المعلن مجد ألمانيا العظيمة وجعلها فوق الجميع، كذلك كان هدف راعينا، فالعراق" عظيم" أيضا وعليه أن يقول للمستحيل تبّا، عليه أن يصنع أكثر الصواريخ تطورا ويغزو الفضاء الخارجي بـ"العابد" والداخلي بـ"الحسين" و"العباس"، أن يكون قائدا للعرب بعد انزواء مصر وعزلها، ثمّ على بغداد أن تتحول، ليس لقلعة صمود حسب، بل إلى منطلق لصنع امبراطورية كبيرة تعيد مجد نبوخذ نصر وهارون الرشيد. وإنه لمن الغريب هنا أن تتشابه خطوات باعث مجد ألمانيا مع باعث مجد العراق في كلّ شيء فيعمد النظامان إلى تنفيذ أكبر عملية غسيل دماغٍ للجماهير في التاريخ عن طريق الإعلام والثقافة، ليغدو العراقيون والألمان بعدها أشبه بفيالق من الكومبارس تصرخ بصوتٍ واحد - يحيا هتلر، أو - يعيش صدام .
الذنب كان جماعيا، نعم، هو كذلك، والدليل أن العراقيين في عهد نظامهم الدكتاتوري تحولوا إلى جيش قوامه الملايين، جيش لا يحارب أعداءه الخارجيين حسب، إن كان هناك أعداء خارجيون، بل يحارب نفسه بنفسه فيتجسس عليها ويكتب عنها التقارير لينجو منها ومن شرورها، ومن ثمَّ، يجد لها موطئ قدمٍ في سفينة النجاة الزائفة، سفينة الدكتاتور التي أجبر العراقيون على ركوبها بعد أن أحرقت المراكب الأخرى.
الدكتاتورية كانت ابنتنا، تربّت في حضننا الخائف، ولن نخطو خطوة إلى الأمام طالما نظرنا لها بوصفها نبتة غريبة عن مجتمعنا، لن نخطو إلى أمام ما لم نعترف أنها من صنعنا، وأننا كنا لحمها ودمها، فتأمل أعانك الله.
مقالات اخرى للكاتب