العراق تايمز ــ كتب كاظم فنجان الحمامي: هذا ما كانت عليه البصرة حتى عام 1968. كانت هي الواحة الجميلة للشركات البحرية العالمية والمحلية, وكانت هي الملاذ الآمن لمكاتب خطوط الشحن البحري في حوض الخليج العربي وخليج عمان وبحر العرب والمحيط الهندي, في الوقت الذي كانت فيه الموانئ العربية والفارسية في الخليج تفتقر إلى أبسط المقومات المينائية والملاحية والتجارية واللوجستية.
سنتطرق هنا إلى المكاتب والشركات البحرية الأجنبية والعراقية, التي غرست قواعدها في البصرة منذ القرن السابع عشر الميلادي, فحملت صفة العالمية بأنشطتها المرتبطة بكل القارات.
وسنبين للقارئ الكريم كيف اختفت الشركات البحرية كلها في يوم واحد, وكيف اتهمتها الحكومة العراقية بالعمالة للأجنبي وبالتبعية الاستعمارية, واعتبرتها (ظلماً وعدواناً) من أوكار الجاسوسية العالمية, فاجتثتها من جذورها, واقتلعتها من قواعدها, وأزالتها من فوق سطح أرض البصرة, فأغلقت أبوابها, وأتلفت سجلاتها, واستولت على بناياتها, ما اضطرها لتصفية أعمالها والهروب من البصرة, فتوجهت نحو الكويت والبحرين السعودية وعمان والإمارات, وهكذا انقطعت صلة البصرة رسمياً بالوكالات البحرية العالمية, منذ عام 1969 بالقانون رقم (41), الذي خضعت بموجبه السفن التجارية لسيطرة الدولة العراقية, بقرارات ارتجالية لا مثيل لها في جميع أقطار كوكب الأرض, فدقَّ العراق أول مسامير الفشل في نعش موانئ البصرة.
ثم تفجرت براكين الشر من فوهات الحرب العراقية الإيرانية, فتعطلت عجلة الموانئ كلياً, وهبط مستواها إلى الصفر, ولم يخطر ببال أحد أنها ستفقد مستقبلها كله بعد القرار العجيب, الذي حفره العراق بمعاوله فوق نعش الموانئ, فجاء القانون رقم (56) لسنة 1985 ليكبل موانئنا بأقسى القيود المحلية, ويحرمها من مرونتها المينائية في التعامل الملاحي الحر, في الوقت الذي تحولت فيه البصرة إلى مدينة خاوية تسكنها الأشباح, فانفرد العراق منذ ذلك الحين بأنظمة الوكالات الحصرية, وظل الحال على ما هو عليه حتى يومنا هذا.
يقولون: إذا ضاقت بك الدنيا بما رحبت فتذكر أيام عرسك, فدعونا نتذكر أعراسنا البحرية في العصور الذهبية, التي كانت فيها البصرة من أجمل الواحات الاقتصادية في عموم أقطار الشرق الأوسط, ولنبدأ باستعراض أشهر شركاتها البحرية حسب القِدم:
شركة ألبير أصفر
تأسس مقرها الرئيس في البصرة عام 1794 على يد الكونت (ألبير أصفر), وكانت في بداية تأسيسها متخصصة بتوريد البضائع الهندية بواسطة السفن الشراعية, وتصدير المنتجات الزراعية العراقية إلى بلاد الشرق, ثم تطورت علاقاتها بالموانئ الأوربية والأمريكية في عصر السفن البخارية, ففتحت لها فروع عدة خارج العراق, وشيدت ثلاثة مكابس للتمور في حمدان والرباط والحسيبية, وكانت من أولى المكابس الحديثة التي شُيدت في العراق, وكان بنايات المكابس تضم مجموعة من القاعات المخصصة لإيواء أطفال العاملات, وتصدر سنويا مئات الآلاف من صناديق التمور, وتعد شركة (بيت أصفر) من أفضل الشركات الوطنية ذات المستوى العالمي, لشهرتها وحرصها الشديد باعتماد معايير الجودة المتعارف عليها في ذلك الزمان.
شركة كري ماكنزي Gray MacKenzie Co.
شركة أجنبية تأسست في البصرة عام 1840, وكانت تمثل الشركة الهندية البريطانية للسفن التجارية, وتمثل شركة (بيت لنج Lynch Brother Ltd.) للملاحة النهرية في دجلة, ولشركة (كري ماكنزي) اهتمامات أخرى بتجارة التمور والحبوب والخيول, وتوريد المكائن من أوربا, ولها أسطول كبير من السفن البحرية, وأسطول آخر من الزوارق والجنائب والسفن النهرية, وكان لها في العشّار معملا كبيراً لصيانة السفن وإصلاحها, افتتحته عام 1920.
ويعد المستر (باني), الذي وصل البصرة عام 1914, من أشهر الشخصيات الأجنبية الذين تعاقبوا على إدارتها, ينافسه في الشهرة المستر (كامبيل), الذي وصل البصرة عام 1913.
كانت شركة (كري ماكنزي) هي الوكيل البحري في البصرة لشركة (BI), التي كانت تمتلك أفضل سفن الركاب المعروفة برحلاتها المكوكية المنتظمة بين الهند والبصرة مروراً بموانئ الخليج, نذكر منها السفن: دمرا, وأمرا, ودواركا, وسواركا, ودارا, وداريسا, وأكرا, وعربيا, ولهذه الشركة عشرات السفن العملاقة لنقل الركاب والبريد عبر البحار والمحيطات ولكافة موانئ العالم, وهي النواة الأولى لتأسيس شركة (P&O) اعتبارا من عام 1972, أما الأحرف (BI) فتعني:
BRITISH INDIA STEAM NAVIGATION COMPANY
شركة سيمون كاربيان
وهي شركة وطنية تأسست في البصرة عام 1896 على يد العراقي (سيمون كاربيان), وكانت من الشركات المتخصصة بتوريد الأخشاب والحديد ومواد البناء, وتصدير التمور والحبوب, ولها فروع كثيرة داخل العراق وخارجه, وكان يديرها ابن أخته (ليون كاربيان) بعد رحيل خاله إلى أوربا واستقراره هناك.
شركة اندرو واير وشركاؤه
وهي شركة ملاحية تأسست في البصرة عام 1905 وامتلكت مجموعة كبيرة من السفن البخارية (عابرة المحيطات), وتوسعت في أعمالها البحرية والتجارية, وكانت هي الوكيل الحصري لبعض الشركات الأوربية المتخصصة بإنتاج وتصنيع الأنابيب الفولاذية, ومعدات مكافحة الحرائق, وأجهزة صناعة الثلج, والمضخات النفطية, ثم حصلت على امتياز خاص منحته لها الدولة باحتكار تجارة التمور بغية تصديرها إلى الخارج, فاشترتها من المواطنين بأسعار طيبة, وأوجدت لها الأسواق الملائمة, وكان لها أفضل الأثر في تخفيف تعقيدات التصدير.
شركة فرانك سترك
فرانك كلارك سترك ( FRANK CLARKE STRICK ), رجل أعمال بريطاني شق طريقه بنجاح بين كبريات الشركات البحرية العالمية, وأسس في شيخوخته شركة STRICK LINE COMPANY .
ولد هذا الرجل في مقاطعة ويلز عام 1849, وهو الابن الثالث لجيمس سترك JAMES STRICK الذي كان يملك أسطولا صغيرا في ميناء (سوانسي SWANSEA) . بدأ فرانك حياته المهنية موظفا بسيطا في البنوك المحلية, فتعلم فيها المبادئ الأساسية للحسابات المصرفية, التي ساعدته في إدارة نشاطاته التجارية في السنوات اللاحقة . ثم تدرج في الأعمال الحرة فعمل وكيلا لبيع السفن المستعملة, وتوسعت مداركه التجارية في هذا المجال, فأسس عام 1889 شركة Anglo-Algerian Steamship Co , ثم توجه بنشاطاته التجارية نحو موانئ شط العرب, فأسس عام 1892 شركة Anglo-Arabian and Steamship Co Ltd .
كانت ترسبات مدخل شط العرب تعد من أصعب الحواجز الطينية التي تعيق حركة السفن العابرة للمحيطات. وكان الحد الأعلى لغاطس السفن المسموح لها بالمرور محددا آنذاك بعشرين قدما فقط, فقرر فرانك اقتحام هذه العقبة الطبيعية عن طريق شراء مجموعة من السفن الصغيرة, وتوظيفها للعمل في هذه المنطقة لكي تقوم بتفريغ كميات لا بأس بها من حمولات السفن الكبيرة إلى المستوى, الذي يجعلها قادرة على تخطي الحاجز الطيني, وتأمين دخولها إلى قناة الروكا. فبدأ عام 1895 بشراء السفينة DWINA التي رابطت عند مدخل شط العرب من جهة البحر. ثم قام عام 1901بشراء السفينة ESTHER وأرسلها إلى قناة الروكا لتساهم في عمليات تخفيف غاطس السفن الكبيرة المتوجهة إلى البصرة. واستمرت هذه الإجراءات على ما هي عليه حتى عام 1926 عندما أصبحت القناة قادرة على استيعاب السفن العابرة للمحيطات, بعد أن تم تهذيب أعماق مدخل شط العرب, وبات بإمكان السفن اجتياز السد الخارجي عند المدخل, والتوجه مباشرة إلى البصرة دونما حاجة إلى إجراءات تخفيف الغاطس. ومن نافلة القول نذكر أن فرانك سترك أسس شركته المعروفة باسم STRICK LINE عام 1913, وفتح لها مكتبا في كورنيش البصرة, وكانت شركته هي الوكيل البحري للخطوط اليابانية (ياماشينا).
شركة داود ساسون David Sasson Co.
للتعريف بداود صالح ساسون نذكر انه من مواليد بغداد في تشرين الأول 1792, وكان والده صالح ساسون زعيم الطائفة اليهودية وأمينا لصندوق حاكم بغداد. انتقلت العائلة إلى مومباي عام 1832 واشتغل داود بالتجارة, وكان هو الوسيط بين شركات النسيج البريطانية وموانئ البصرة, ثم توسع في تجارته التي كانت قائمة على تجارة النسيج إلى ثلاثة حقول تجارية, هي تصدير الغزل والأفيون إلى الصين, وتجهيز الأسواق البريطانية بالبضائع الآسيوية.
لقد حقق داود ساسون نقلة نوعية في عمله عندما أرسل أبنه (إلياس) لتوقيع اتفاقية توريد القطن لمصانع لانكشاير, وافتتح مكتباً تجاريا في شنغهاي عام 1845.
لم يتحدث داود ساسون اللغة الانجليزية لكنه أصبح مواطناً بريطانياً عام 1853. حافظ على زيه العربي وعاداته البغدادية حتى وفاته في الهند عام 1864, ويقال أن كل الذين ينتمون إلى أسرة ساسون في أوربا تعود أصولهم إلى تلك العائلة البغدادية العريقة.
توسعت شركات داود ساسون بعد وفاته, وواصلت عملها بوتيرة متصاعدة في الأنشطة المينائية والتجارية, وافتتحت لها فرعاً جديداً في البصرة عام 1918 لتجارة الأدوات الكهربائية والمواد الإنشائية والمكائن الزراعية, وكان (عبودي عزرا) هو الذي يدير هذا الفرع في البصرة.
شركة عدس المحدودة
أسسها في البصرة شفيق عدس عام 1923, وهو يهودي من أصل سوري, استقر في البصرة, وأسس فيها شركته البحرية التجارية, فاختار البصرة باعتبارها أكبر قلاع الشركات البحرية في الشرق الأوسط, وكان معروفاً بأخلاقه الفاضلة, وعلى جانب كبير من الأدب والوقار والنزاهة, لكنه مات مشنوقا صباح يوم 23/9/1947 بمؤامرة لفقتها له العصابات الصهيونية المتواطئة مع الحكومة الملكية في العراق, بقصد تخويف اليهود, وبث الذعر في نفوسهم, وافتعال المبررات لتهجيرهم إلى إسرائيل.
عملت الشركة في بداية تأسيسها بتوريد الأجهزة الكهربائية والمعدات الزراعية, ثم توسعت أكثر فأكثر لتصبح في غضون بضعة أعوام هي الوكيلة الحصرية لشركة فورد للسيارات, وإطارات متشلن, وتميزت الشركة بحسن المعاملة, وتسهيل أمور زبائنها.
شركة حنا الشيخ
تأسست في مدينة العمارة قبيل الحرب العالمية الأولى, أسسها حنا الشيخ نفسه, واشترك أولاده الثلاثة في إدارتها, وهم: روفائيل (رفولي), وجبرائيل (جبوري), وميخائيل, وكانت من أقوى الشركات الوطنية المتخصصة بالنقل النهري بين المدن العراقية الواقعة على نهر دجلة.
تمتلك شركة حنا الشيخ أسطولا كبيراً من السفن الشراعية والمراكب المحلية والجنائب المقطورة, التي لعبت دوراً فاعلاً في تعزيز حركة النقل بين البصرة وبغداد.
انتقلت الشركة إلى البصرة في عشرينيات القرن الماضي, وكان ميخائيل المولود في العمارة هو مديرها التنفيذي, بينما كان مديرها الإداري الأديب البصري السيد (سليم داود أنطون), ووسعت أنشطتها التجارية في المجالات البحرية, فحققت نجاحاً منقطع النظير.
كان لأسرة حنا الشيخ مكانة مرموقة في المجتمع العراقي, وظلت تحتفظ باحترامها عند جميع الناس حتى يومنا هذا, ويعزا ذلك إلى علاقاتها الصادقة مع الفقراء والأغنياء من دون تفريق, وتعزا أيضاً إلى مشاركاتها هموم الناس في كل المناسبات, ومن نافلة القول نذكر أن هذه الأسرة كانت تشرف على أولى مسابقات كرة القدم في البصرة, في تنافس رياضي سنوي تشترك فيه الفرق المحلية, يطلق عليه (كأس حنا الشيخ).
نقلت الشركة أعمالها خارج العراق بعد عام 1968, فغادرت مع الشركة البحرية المغادرة, واستقرت في الإمارات, ولها الآن فروع عدة في أقطار الخليج العربي والموانئ الأوربية.
تقدم جوزيف حنا الشيخ عام 2004 لحكومة أياد علاوي بمخطط متكامل لتنفيذ مشروع ميناء العراق الكبير بتمويل مبدئي من بنك (لازار) الفرنسي, بقيمة (12) مليار دولار, واستمرت المفاوضات سجالاً بين الحكومة العراقية وشركة حنا الشيخ حتى عام 2008, وسنسرد تفاصيل هذا الموضوع في مكان آخر بإذن الله. .
شركات أخرى في سجلات القلعة البحرية
لا مجال للتحدث هنا عن الشركات البحرية والتجارية الأخرى, التي اتخذت من البصرة موقعاً استراتيجياً لمزاولة أعمالها بمرونة تامة, ومن دون أي منغصات.
من هذه الشركات نذكر: شركة هلس أخوان, وشركة نوري لاسو, وشركة يوسف موشي وشركاؤه, وشركة مير لاوي, وشركة يوسف نسيم كوهين وشركاؤه, وشركة مايكل أخوان, وشركة مالكولم ومارين المحدودة, وشركة عزرا مير حكاك, وشركة فاولر المحدودة, وشركة صيونكباي, وشركة عبد الكريم الخضيري للملاحة النهرية, وشركة سورين, وشركة مزرعة كوت السيد, وشركة الشمخاني, وشركة البجاري, وشركة أحمد حمدي الملا حسين, وشركة جيتا بائي كوكل, التي تمتلك الآن أكبر الأساطيل البحرية التجارية في شبه القارة الهندية.
مما يؤسف له أن الكثير من امتدادات هذه الشركات توسعت الآن في أعمالها ومشاريعها وأرصدتها, وأصبحت من كبريات الشركات البحرية والتجارية, التي يُشاد بها في معظم الموانئ والمراكز الاقتصادية العالمية, لكنها قطعت روابطها نهائيا بالبصرة, ولم تعد تعرف عن جذورها القديمة إلا في حدود ما نكتبه هنا وهناك عن دور البصرة التجاري قبل صدور القرارات الارتجالية التي أطاحت بصروح البصرة, ودمرت علاقاتها البحرية والملاحية مع خطوط الشحن العالمية. .