من يسافر في الدنيا يرى عجباً، ويتعلم، ويشاهد هذا الفضاء الفسيح بعين اخرى يسمع باشياء وباحداث.. ويعي كيف ينقلب العيب في مكان الى شرف في مكان آخر، وحال المرء حيالها مثل حال الرحالة الخيالي (جلفر) فان عاد المرء من بلاد الاقزام، يرى بلده كبيراً، وان عاد من بلاد العمالقة تضيق شوارع بغداد بعينه، وتتحول ابنتيها الى نماذج صغيرة مصنوعة من (الفلين) ولكن (جوناثان سويفت ) مؤلف رحلات جلفر، نسي في غمرة انبهاره بفكرته الاصلية ما تتركه الرحلات الكثيرة على عقل الانسان من قدرات على المقارنة، والتحليل، نسي ذلك التفاعل الكيمياوي الذي يجري في خلايا الدماغ والذاكرة بفعل المشاهد المتنوعة التي يحياها المسافر بقلبه وعواطفه وعقله وعرقه وجريانه وكثرة حساباته واختلاط الزمان بالمكان في مخيلته، فتخرج جميعاً بنتاج وحالة اكثر تسامحاً واكثر فهماً، ولكن ليس بالضرورة اكثر قبولاً.
لقد قيض للبعض منا، ان يقطع مسافات، وتقلبت عليه من امم وخلق واماكن اضعاف ما قام به ابن جبير او ابن فضلان او ابن بطوطة، وهذا التفاوت في التجارب والتقلب بين الاماكن والمقاييس لابد وان يترك اثره الواضح على الانسان، هذا الطائر بغير جناح، هذا المخلوق الذي كرمه الله وحمله في البر والبحر وسخر له قوانين الكون لتنقله وتحمله وتعلمه، فهل يتعلم؟
كم سافر البعض منا، وهل بالفعل تغير او حاول ان غير المحيطين به؟ هل نضج هذا البعض بتجارب السفر؟ ام انهم بعد سائرون في كثير من الغي الذي كان وما زال يغلف عيوننا عن رؤية الحقائق، وفهم الامور، والتروي عندها قبل اصدار الاحكام؟
ان كثيرين منا في العراق لا يسافرون الى حضارات اخرى، ومعظمهم يذهب لزيارة عمل او تجارة او متعة حسية – حيث تجرح نخوته المعاملات والقيود المحسوسة غير المرئية، والنظرات الباردة والشك الذي يحيط به كالسوار أنى تحرك ومشى..وهناك من البعض قيض له ان يسافر في بلاد ويرى ما يذكره بأوجاع بلاده..
السفر عند بعضنا يولد عنده حركة دينامية، ومسرح نظرته الدنيا بأسرها وما جرى فيها من اختزال للزمان والمكان، والبعض الآخر، ما زال يحيا ويبحث عن الماضي ليجد فيه مكاناً، ليس هذا مصيباً، وذاك مخطئاً، كلاهما نتاج لبيئة مختلفة وتجارب متباينة، ولكن الفجوة بين الجيل الواحد هي التي تؤرق فالى اين نحن سائرون؟
اننا نعمق الفجوة في المجتمع، والحرية (النسبية) التي نحيا بداياتها لن تسعد تلك الثغرة بل ربما توسعها وتزيدها عمقاً، وسيكون امامنا فكران غير متجانسين:
احدهما اقلية تعرف لغة العالم وتتوقع ان تكتسب من هذا الفهم مالاً ونفوذا تعزز ما تتمتع به الآن، وفئة اخرى هي الاكثرية ترى ان في كثرتها فرصة لها لتحكم وتقرر وتتخير. واحدة تريد ان تنهل من العالم وتفكر من خلال موقعها بما في مجتمعها من ترتيبات وحسنات وعيوب، واخرى تنظر للعالم نظرة استعداء وريبة، ولا ترى فيه الا مكاناً يذبح فيه اصحاب هذه الديانة، وتنكر حقوقهم، وهم لا يريدون منه شيئاً.
فالفرق في تجاربنا ليس مجرد ظاهرة سطحية بل هو خلاف كبير في المواقف تجاه العالم تتحول الى مواقف تجاه بعضنا البعض.
وبدلاً من الحوار الداخلي، تسيطر نظرة الريب والشك وعنف اللسان، الذي قد يفضي لا سمح الله الى استخدام اليدين.
هل نحن في طريقنا الى ازدواجية ثقافية في المجتمع، واحدة غربية واخرى تقليدية، ونحن بحاجة الى ان نكون مجتمعاً له هوية ولون وطعم خاص به، نابع من حضارتنا، عاكس لميوله، قادر على الوفاء بحاجاته الروحية والمادية ولكننا ايضا جزء من العالم، ولا نستطيع عنه فكاكاً، فكيف نوفق بين الاصالة والمعاصرة في مجتمعنا؟
مقالات اخرى للكاتب