قبيل رحيله الابدي اصدر الفقيد معتصم زكي السنوي كتابا جديدا بعنوان (فلسطين كما يريدها صناع السياسة والمرجعية الامريكية) وقد كتب مقدمته الدكتور احمد عبد المجيد تحت عنوان (تضحيات جسيمة لهدف عظيم)، ننشر نصها بالنظر لما تنطوي عليه من اشادة بجهود
الكاتب الراحل
مضى نحو سبعين عاماً على بدء مأساة فلسطين. لقد كرس وعد بلفور الاحتلال الاجنبي لهذه الأرض ولكن بوجه أقبح، استبدل الملامح البريطانية بأخرى أبشع، صهيونية اتخذت من التوراة غطاء لتوسيع حدود ما سمي بدولة اسرائيل، على حساب الحدود التاريخية والوطنية لأرض العرب.
وكل ذلك بسبب انقسام العرب، انفسهم، وتراجع مبادئهم وتراخي علاقاتهم الاخوية وابتعادهم عن المعنى الحقيقي للدفاع عن مصالحهم المشتركة.
لقد مرت القضية الفلسطينية، كما سميت بعد عام 1948 في المحافل الدولية والادبيات السياسية، بظروف صعبة وطاحنة وشهدت تراجعات فكرية وتلاعبات في المبنى والمعنى، على نحو افقدها كثيراً من هيبتها، كقضية انسانية عادلة تخص شعبا أصيلا تم اقتلع من أرضه وتوزيعه بين الشتات لارضاء نوازع (حكماء) بني صهيون، وتأسيس أول مشروع لدولة يهودية على أرض الغير وبتحد غير مسبوق للقواعد الاخلاقية والمبادئ القانونية الدولية.
واستنزفت هذه القضية أمة باكملها، هي أمة العرب، وهدرت ثرواتهم واستدرجت الجيوش لاحتلال اجزاء غالية أخرى من أديم جغرافيتهم.
وليس من الموضوعية القول ان الانظمة العربية، لوحدها كانت وراء مآل هذه القضية وتراجعاتها المخزية، بل تتحمل القوى السياسية برمتها والنخب الفكرية والثقافية، المسؤولية أيضاً.
روح المثابرة
انها سارت وراء سراب الايديولوجيات والوعود وتكاسلت عن العمل والاجتهاد النابعين من الاخلاص للقضايا المصيرية. وهو عامل يتميز به قادة المشروع الاسرائيلي ونخبه وسواده الاعظم.
واذا راجعنا مذكراتهم، التي غزت المكتبات بعد ترجماتها الى العربية، سنجد تلك الروح المثابرة والمخلصة التي تشتغل في دواخلهم جيلاً بعد جيل من اجل خدمة مشروعهم وتأسيس قواعده، ليس باعلان الدولة، حسب، بل بقبول التحدي في انجاح مقوماتها السياسية والاقتصادية والعمرانية.
وفيما كانت تداعيات حرب 1948 وما تلاها وما اعقبها، تترك اثراً عميقاً من التطاحن ومظاهر شتى من الاحتراب والتشظي والانفلات بين العرب ودولهم وحكوماتهم ومصالحهم الاستراتيجية، كانت اسرائيل تثبّت نفسها في المحيط المحلي عبر انتصارات عسكرية قتالية على جيوش العرب، وعلى المستوى الدولي عبر استقطاب مزيد من التأييد والدعم والقبول والامتداد في اوربا وافريقيا ومعظم ارجاء أسيا.
لقد مارست اسرائيل كل اشكال الخداع والتضليل من أجل اظهار مظلوميتها وتبشيع صورة اعدائها من العرب والدول المتعاطفة معهم، كانت غايتها في تربية اجيال من اليهود، على الاعتزاز بارثهم وتجربتهم، تتقدم على بقية الاهداف. وهو أمر آخر لم يفلح العرب في مجاراته.
ففي وقت اتسعت ارجاء ديموغرافية اسرائيل لتشمل ما يسمى عرب 1948 بين مقتربات مدنها واستدراج ملايين اليهود، ولاسيما (الفلاشا) منهم الى (أرض الميعاد)، ادى التخلف والقمع وفقدان الفرص وانعدام الأمل وتراكم الثروة بشكل غير عادل لدى اصحاب السلطة والجاه في الدول العربية، الى هجرة الملايين من ابنائها الى أوربا وامريكا، ليشكلوا جيوشاً من الكفاءات والعلامات الفارقة، في مختلف القطاعات العلمية والانتاجية، وفي سوق العمل أيضاً، وبالتالي يكونون ظهيراً، في أغلب الأحايين، الى دفعات الدعم، متنوع الاشكال، الذي يقدم الى اسرائيل لكي تتفوق وتترسخ وتقاوم ما تسميه حصار البلدان العربية المحيطة بدولة صغيرة (مسالمة). انها احدى اكبر الخدع التي انطلت على العرب والعالم واستمرت بتحولات أشد، حتى اليوم.
وفي المحصلة فان الفلسطينيين كانوا اكبر الخاسرين، ليس بين العرب وحدهم، بل بين شعوب الأرض قاطبة، اذ لم يشهد التاريخ شعباً تعرض للابتزاز والالتباس مثلهم، كما لم يشهد حالة مماثلة لتآمر ذوي القربى عليهم مثلما كان الفلسطينيون ضحاياها بامتياز.
اعتقالات واهانات
واتذكر ان طلاباً جامعيين من عرب 1948 زاملونا في الدراسة اوائل عقد السبعينات من القرن الماضي وكانوا يحدثوننا عن ألوان من العذاب واشكال من الاعتقالات والاهانات يتعرضون لها عند عبورهم لزيارة اهاليهم في فلسطين المحتلة.
وكانوا خلال العطلة الربيعية يصلون الى بغداد متأخرين، اسبوعاً واسبوعين، بسبب احتجازهم في بلد عربي ثالث.
هو وجه آخر من وجوه الظلم العربي وسياسة المهانة والاذلال التي يتعرض لها الفلسطينيون من ابناء عمومتهم وذوي القربى.
وعملياً ظلت قضية فلسطين حاضرة في ضمائر العرب ولم تبرح موقعها من اولويات اهتماماتهم القومية طيلة خمسة اجيال تقريباً، حتى اذ تلاقت المصالح الكبرى وتفاقم الانقسام العربي، وسقط الخجل من حسابات الحكام العرب، تقدمت اولويات أخرى وتراجع الهم الفلسطيني ليدخل، احياناً، خانة النسيان ويصبح حرمان شعب من حقوقه التاريخية ومن وعود اقامة دولة (على حدود 1967)، طرحاً مقبولاً بل غاية لا تدرك، على حساب اوجاع ودماء وخسارات عربية فلسطينية لاحصر لها.
ان من العار على أمة إن تهدر كل تلك التضحيات وان تفرط بفرصها في التقدم والوحدة فيما تمتلك ثروة وسلاحاً اقتصادياً هائلاً تستطيع به تحقيق انتصارها أو اذكاء المقاومة، على الأقل.
ودعوني، ايها القراء الكرام، أشير الى مؤلف هذا الكتاب وموقعه في المشهد الذي يتناوله محتوى كتابه الجديد، وهو الثامن في سلسلة اصدارات تمثل جهده الفكري.
فالاستاذ معتصم السنوي أحد الشهود العرب على مأساة فلسطين، لقد رافق محطاتها الكبرى واكتوى بنار هزائمها واندحاراتها، مثقفاً ومواطناً منتمياً، ولانه يعي ابعاد وجذور مشروع اقامة الكيان الاسرائيلي في فلسطين فانه أنجز العديد من التحليلات بهذا الشأن.
ولم يكتف بانه رفع صوته وتظاهر ونزف من أجل قضية فلسطين، بل أجتهد وثابر وحمل القلم لكشف حقائق تتعلق بالجوانب المختلفة لهذه القضية القومية الانسانية.
واقول انسانية لان العديد من الشعوب والحكومات الاجنبية التي كانت مضللة بمزاعم ودعايات اسرائيل اكتشفت الحقيقة، ولو بعد حين، وتلمست حجم الظلم الذي تعرض له الفلسطينيون، فحاولوا اظهار تعاطفهم والاستغفار عن ذنب اقترفوه.
وكانت مناسبة رفع علم فلسطين في مبنى الامم المتحدة خلال شهر ايلول 2015 أحد مظاهر عودة الوعي الدولي وانتصاراً متأخراً لحق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
وطيلة مسؤوليتي في جريدة (الزمان)، رئيساً لتحرير طبعتها في العراق، كنت شاهداً على روح المثابرة والمواصلة التي تحلى بها السنوي وتميز بها عن اقرانه من الكتاب.
انه واحد من اخلص الكتاب العراقيين والعرب لقضية فلسطين، ولهذا حرص على اصدار رؤية صناع السياسة والمرجعية الامريكية للقضية الفلسطينية.
واتمنى ان تستعد دولة فلسطين او سلطتها منذ الآن لتقويم عطاء الكتاب الذين وقفوا مع هذه القضية ودافعوا عنها وعذبوا وسجنوا وفصلوا من وظائفهم وفقدوا عافيتهم وارواحهم في سبيلها.
هو واجب الوفاء الذي سيظل في اعناق الذين يوفقهم الله ويستجيب لجهودهم وكفاحهم، المجتمع الدولي من أجل اقامة دولة فلسطين بعد عقود طويلة من التضحيات الجسيمة والكفاح المخلص والحجارة وثورة ثورة حتى النصر. ان ذلك لناظره لقريب.
مقالات اخرى للكاتب