ارتكزت الدولة العراقية الحديثة التي تاسست عام 1921 وسقطت عام 2003 في قيامها وديمومتها وحمايتها وتكاتفها على مفهوم العصبة (The League) القبيلة والمذهبية والسياسية , ومفهوم العصبة بحسب اطروحة (ابن خلدون) بستدعي وجود العصبية (Solidarity) التي عرفها بانها مجموعة من الافراد الذين تجمع بينهم رابطة الدم او الحلف اوالولاء من اجل التفاعل الاجتماعي وتحقيق الملك والدولة والرئاسة التي هى في الاساس غاية العصبية وهدفها الاول ( فالعصبية هى القوة الجماعية التي تمنح القدرة على المواجهة كما يقول الجابري ) بمعنى ان العصبة هى من تعتبر ان هذه الدولة هى دولتها , وان الواجب الاخلاقي والقانوني والعرفي حمايتها والدفاع عنها , وتبرير اخطائها والتعمية على سلبياتها , واظهار ايجابياتها . ورغم ان الدولة الحديثة التي تبلورت من خلال تنظيرات مفكري التنوير الاوربي الحديث امثال هوبز وجون لوك وجان جاك روسو قد استندت على مفهوم اخر مغاير وعصري في بلورة الدولة ومشروعيتها وهى نظرية العقد الاجتماعي , الا ان هذه النظرية لاتتناقض كليا مع اطروحة ابن خلدون حول العصبة والعصبية , لان الدولة الحديثة قد استندت نسبيا الى مفهوم النخبة (Elite) السياسية والحزبية والراسمالية الحاكمة , وهو قريب جدا لمفهوم العصبة .
استندت الدولة العراقية الحديثة على انماط متعددة من العصبة الاجتماعية والعصبية السياسية في سطوتها وادارتها , بعضها ثابت , والاخر متغير . الثابت هو حكم الاقلية (Oligarchy) العربية السنية الحاكمة التي تلازمت مع العمر الاول من الدولة العراقية (1921 – 2003) الا ان المتغير فيها هو العصبية القبلية والحزبية والايديولوجية , المتحولة في الزمان والمكان . ففي العهد الملكي كانت العصبية خليط من الضباط المنشقين عن الدولة العثمانية الذين التحقوا بثورة الشريف حسين بن علي عام 1916 والمعروفيين بالضباط الشريفيين , المتحالفيين مع البرجوازية التجارية التي اعتمدت على راس المال الاجنبي (الكومبرادور) (Comprador) وشيوخ العشائر الذين تحول اغلبهم لاحقا بعد اقرار قانون التسوية عام 1932 الى( اقطاعيين )( مع التحفظ على هذه المفردة ). واستمرت هذه العصبة قائمة الى قيام ثورة تموز 1958 حيث حصل انهيار في الطبقات القديمة , وتسلم السلطة نمط جديد من العصبة , وهى العصبة العسكرية ذات الجذور الريفية , الا انها لم تدم طويلا في الحكم , اذ استمرت خمس سنوات فقط (1958 – 1963) حيث انهارت امام نمط جديد من العصبة القبلية والعسكرية والايديولوجية وهو النمط القومي (البعثي والناصري) ذات النخبة العسكرية التي ترجع الى المنطقة الغربية من عشائر الدليم واعلى الفرات , ثم تحولت الى عشائر تكريت بين عامي (1968 – 2003) وتولي احمد حسن البكر وصدام حسين وباقي التكارتة السلطة .
لكن الملاحظ ان الدولة العراقية الجديدة بعد عام 2003 لم تستند الى عصبة اجتماعية او سياسية او ايديولوجية ترتكز عليها تبرر سلبياتها وتبرز ايجابياتها وتحمي نظامها , او تعتقد ان هذه الدولة دولتها , ويجب بالتالي تحمل نتائج اخطائها والحرص على مقدراتها والدفاع عن هويتها كالشيعة او السنة او الكورد , او التوجهات السياسية والايديولوجية الاخرى كالعلمانيين والاسلاميين وغيرهم , رغم المشروعية الديمقراطية التي انفردت بها عن سائر الانظمة السياسية في تاريخ العراق المعاصر . فالسنة العرب ورغم انهم دعموا جميع الانظمة السياسية في التاريخ الاسلامي والحديث والمعاصر (كما بينا ذلك في دراستنا سنة العراق من فقه الطاعة الى فقه العصيان) الا انهم اعتبروا الدولة العراقية بعد 2003 ليست شرعية او قانونية فحسب , بل حتى دولة عميلة وكافرة او خائنة , لانها انهت المعادلة الطائفية السابقة في ادارة الدولة والهيمنة عليها , واصبح رفضهم متجسدا بممارسات ظاهرة للعيان لاتحتاج الى نقاش او تبرير كالارهاب والرفض والتحريض وغيرها , وبالتالي فان من الصعوبة بمكان اقناعهم بان هذه الدولة القائمة على التعددية السياسية والتمثيل الحقيقي لفئات المجتمع دولتهم . واما الكورد فان اقصى طموحهم من الدولة العراقية يرتكز على اثنين : الحصول على المزيد من المكتسبات الاقتصادية للمجتمع الكوردي اولا والمشروعية السياسية امام العالم للاقليم ثانيا , وبالتالي فانهم لايعتبرون نفسها عصبة هذه الدولة وركيزتها الاساسية - ان لم يكن العكس - فانهم يحملون موروثات هائلة من الكراهية والبغضاء تجاه هذه الدولة بسبب المظالم الكبيرة والممارسات القمعية التي قامت بها الانظمة القومية والعنصرية السابقة . ولم يبقى عندنا في الاخير سوى الشيعة الذين من المفترض ان يكونوا عصبة الدولة وسلاحها الامضى وسيفها البتار , على اعتبار ان الدولة الجديدة بعد 2003 قد ازالت الانتهاكات والمظالم التاريخية التي تحملوها عبر المئات من السنيين من الدول والحكومات الطائفية المتعاقبة على مدار التاريخ الطويل , حتى اصبحت تلك المظالم والانتهاكات مضرب الامثال في الاستبداد والقمع والانتهاك والمكافحة الثقافية التي نالت حتى من الهوية الحضارية والمذهبية للاغلبية الشيعية في البلاد . الا اننا وجدنا العكس من ذلك , حيث وجدنا رفضا وتجاوزا منقطع النظيرعلى الدولة الجديدة , وسخرية وهجوما على المفاهيم المتعالية التي جاءت بها كالحرية والديمقراطية والتعددية , والمؤسسات السياسية والامنية والتربوية التي صنعتها او جاءت بها , وهذا يرجع الى اسباب عدة ذكرها الكتاب التقليديون او السطحيون عادة كالتراخي والاحتلال والفساد والصراعات السياسية وانعدام الخدمات وغيرها من المقاربات التي يرددها البعض ببغاويا دون وعي , وكأن العراقي – وخاصة الشيعي – يعيش طوال عمره الكسيح في دولة اليوتوبيا والرفاهية والعدالة والحرية والتسامح والمثل العليا , وليس في دولة الليوثيان – بلغة هوبز – الدولة التنين التي تفترس ابنائها - حسب تعبير فالح عبد الجبار - وتنتهك حرماتهم واعراضهم وتنال من خصوصياتهم ومقدساتهم , الا ان المثقف البنيوي قد يخرج بمقاربات اكثر موضوعية واعمق تاويلية في اعطاء مقاربات عامة لتفسير هذه الظاهرة الشاذة في التاريخ , ويمكن الاعتماد على منهجية الفيلسوف الالماني خالد الذكر( هيغل ) بهذا الصدد , فقد اشار هيغل في معرض تحليله وتعليقه حول سبب رفض المجتمعات المسيحية لمفهوم الدولة – واشار الى المجتمع الالماني قبل التوحد عام 1870 – الى واعز ديني محدد , وهو اعتقاد المسيحيين ان الدنيا ليست مكانا للدولة او الاستقرار ابدا , وان مملكة السيد المسيح ليست في هذه الارض (مملكتي في السماء)( فمدينتنا في السموات وفيها ننتظر الرب يسوع المسيح مخلصنا)(فاطلبوا اولا ملكوت الله وعدله) , وبما ان شيعة العراق الحاليين هم احفاد اولئك المسيحيين الاراميين السريان من النساطرة الانباط (اطلق الفرس الساسانيين على جنوب العراق تسمية سورستان اي ارض السريان) فانهم اسلموا وفق رؤية او صيغة جمعت الاسلام الرسمي من جانب والافكارالمسيحية الغنوصية من جانب اخر, انصهرت في بوتقة واحدة جديدة اطلق عليها تسمية (التشيع) , تبلورت من خلال مفاهيم مسيحية عديدة ادرجت في المنظور الاسلامي الشيعي , كعدد الائمة المعصومين الاثنى عشر المساوي لعدد الحواريين او تلاميذ السيد المسيح , وتقديس فاطمة الزهراء المقارب لتقديس امه مريم العذراء , والبكاء على الحسين والتضحية بالمقدس الالهي الموازي للبكاء والتضحية بالمسيح عيسى بن مريم , وانتظار المهدي المنتظر المشابهة لانتظار المسيح المخلص في اخر الزمان , والتنظيم الحوزوي الديني المقارب للتنظيم الكنسي المسيحي ( الاكليروس ) , وتقديس المجتهدين والمراجع المقارب لتقديس الاباء والكرادلة والاساقفة , والدفن والزيارة الى النجف وكربلاء المقارب لزيارات المسحيين العراقيين سابقا للاديرة والكنائس والدفن في الحيرة والكوفة , وغيرها من المفاهيم التي ادرجت اما من خلال الانسياب عبر منهجية الانماط الاصلية او العليا (الاولية) التي طرحها عالم النفس السويسري المعروف كارل يونغ والتي سبق ان ذكرناها في دراسات سابقة حول انسياب الكثير من الانماط العراقية والرافدينية القديمة الى المجتمع العراقي الاسلامي عبر اللاشعور او اللاوعي الجمعي (Collective Unconcious)من خلال تاويل التاريخ (الهرمنيوطيقا)(Hermeneutics) ,( فالعقل العراقي الشعبي - بحسب شاكر شاهين - يتكون من اللاوعي الاسطوري الجمعي والوعي التاريخي الجمعي , اي يسقط الاسطورة على الحدث التاريخي بشكل لاواعي وبصورة نمط اصلي غارق في القدم ) , او ربما نقلت او ادرجت مباشرة من قبل الرهبان والكهنة ورجال الدين المسيحيين كنوعا من الخلاص والنجاة من الاضطهاد العربي والاسلامي , ومد الجسور والتواصل معه بصورة لاتخل باصول الهوية الثقافية , وتسهيل عملية التحول الديني عند الموالي الاراميين السريان من المسيحية الى الاسلام , او نوعا من المقاومة والرفض للوجود او الاحتلال العربي من خلال بلورة او صناعة نوعا اخر من الاسلام المتسلط الحاكم وهو الاسلام الشيعي ذو المضمون الحضاري العقلاني المعتدل الذي يختلف عن الاسلام البدوي الاقصائي , ويبدو ان من اهم تلك المفاهيم التي ورثها الشيعة في العراق من اجدادهم المسيحيين هو رفض المفهوم الدنيوي للدولة , واعتباره مشروعا مؤجلا لحين ظهور المهدي (فدولتنا في اخر الزمان , حيث تعيش الشاه مع الذئب) و(تذهب الشحناء من قلوب العباد واصطلحت السباع والبهائم )( دولة كريمة تعز فيها الاسلام واهله وتذل فيها النفاق واهله ) اي ليست دولة خدمات وامن ورفاهية , بل دولة ايديولوجية اسلامية تعز الاسلام واهله وتلعن المنافقين والكفار والصهاينة والامبريالية والعلمانية والماسونية العالمية وغيرها , ومن الطبيعي ان دولة كهذه ستكون حتما مقدسة - ثورية - راديكالية , واما اذا جاءت غير ذلك , فانها دولة مدنسة لاتستحق العصبة والتاييد .
واما المقاربة الثانية فهى تتعلق بوصف (هيغل ) لجزيرة العرب التي هى مركز الساميين ومستودع الهجرات العربية لارض العراق (ارض السواد) التي سيطروا عليها الاف السنيين بانها (العربية الهمجية)( وانهم نجحوا بفضل الفتوحات ان يبلغوا الهيمنة والثروات وحق العائلة المالكة في الهيمنة والروابط بين الافراد , وان هذه الشعوب البدوية , ورغم كل مظاهر الحماس والقوة التي تتمتع بها , الا ان ماتهتم به اساسا هو نهب واخضاع الشعوب المتحضرة ولاتترك من اثر سوى الخراب والدمار) واما الاتراك الذين سيطروا على العراق اكثر من الف عام من التاريخ الاسلامي ابتدا بالسلجوقيين وانتهاء بالعثمانيين , فقد وصفهم هيغل ايضا بان (ارادتهم اعتباطية ....... وان تجسدها الملموس يظهر في سلوكية الانكشارية في الجيش العثماني حيث تبدو هذه الجماعة في نظره ارادة وحشية , ومحض تعصب يهدد بتدمير كل ماهو منظم , وكل شكل من اشكال الحقوق والقيم الجماعية ) , وبما ان جميع تلك الدول والانظمة السامية والبدوية العربية والتركية هى دولا استبدادية واحتكارية وغريبة عن بنية المجتمع العراقي وقيمه الاجتماعية والحضارية والمذهبية , فانها خلقت بالتالي نوعا من الانفصام النفسي والاغتراب الحاد والبنيوي بين الانسان العراقي الاصلي او النبطي وبين الدول الحاكمة المتسلطة , بل ان (اوبنهايم ) يذكر ان منشا الدولة في التاريخ القديم قد تاسس في العراق بعد هجوم البدو او الساميين القادمين من الهضبة الغربية على القرى الفلاحية في السهل الرسوبي العراقي , وان هذه البلاد هى من اوائل البلدان او المجتمعات التي نشات فيها طبقتان متمايزتان : طبقة حاكمة وطبقة محكومة , او بعبارة اخرى غالبة ومغلوبة . وقد تبنى الدكتور علي الوردي هذا الراي في كتابه الاول (شخصية الفرد العراقي) وذكر ان هذا الصراع الحضاري (Clash of Cultures) قد اثر في شخصية الفرد العراقي تاثيرا بليغا , فالفرد العراقي اصبح مضطرا ان يقتبس نوعين من القيم الاجتماعية او يقلد طبقتين من الناس : طبقة البدوي الغالب وطبقة الفلاح المغلوب , فهو تارة بؤمن بالغلبة ويتباهى بها , او يحاول ان يظهر قوته على غيره , وهو تارة اخرى يئن من سوء حظه ويشتكى من ظلم الناس له , مؤكدا ان العراقي يكون خاضعا (مازوكيا) عند مواجهة من هو اقوى منه - وخاصة من اتباع السلطات السابقة - بينما يكون (ساديا ) اذا واجهه ضعيفا - وخاصة من ابناء جلدته . ورغم ان هذا التاييد الذي ذكره الوردي لاطروحة (اوبنهايم) قد يقعه في تناقض مع اراءه وفرضياته اللاحقة حول ان القيم البدوية تتناقض مع مفهوم الدولة القائم على الاستقرار , وان انتشارها وسطوتها وتمددها مرهون بضعف الدولة من جانب او قوتها من جانب اخر . الا ان الواقع المعاش الذي نجده , وتجليات الانفصام والاغتراب بين العراقي والدولة , يؤيد صحة تلك الاطروحة نسبيا , التي هى ربما انسابت لاشعوريا ايضا من التاسيس الاجنبي (البدوي) الاول الى الانسان الحديث والمعاصر, حيث ارتبطت الدولة عند العراقي الاصلي الفلاح بالضرائب والتجنيد والتمييز والاضطهاد , بل وحتى بالممارسات القمعية الاخرى التي لاتحصل الا من خلال اجهزة الدولة وجلاوزتها كالتهجير والاعدام والابادة والتعذيب والاعتقال .
فيما تتعلق المقاربة الثالثة حول الاسباب البنيوية لرفض مفهوم الدولة عند العراقيين الشيعة بتحولات الوعي عبر التاريخ ( التي هدفها التطابق مع الهوية وانهاء الاغتراب وامتلاك الحرية من خلال قوانين الجدل الديالكتيك ) التي ادرجها (هيغل ) في كتابه الخالد فينومنولوجيا الروح او ظاهريات الروح , – (فالروح المغتربة هى التي يكون وعيها ذا طبيعة منقسمة ومزدوجة وان انهاء الاغتراب هو الحصول على الحرية ) , وهذه الروح الاغترابية جعلتنا نعتقد ان هوية المجتمع العراقي – الشيعي – تحديدا تندرج على الدوام ضمن خانة (الوعي الدنيء) او (المتمرد والوضيع) (الذي هو مظهرا للوعي الساخط الذي لا ينسجم مع ذاته مطلقا ، ولا يرضى عن وضعه القائم باي حال من الاحوال ، فهو وعي سالب يلقى كلا من السلطة والثروة بروح السخرية والاستهزاء ، لانه يضمر في طوايا شعوره احساسا دفينا بالثورة والتمرد . لذا فهو لم يستطع ان يحقق الهوية او التطابق مع الذات ابدا ، بسبب الحركة المستمرة التي ملئوها التمزق والتناقض والتوتر). وبما ان (السلطة هى رمز الوجود والحياة والكرامة ) كما يقول العلامة السيد هاني فحص , فان اي هوية او مجموعة او طائفة من الناس ان لم تعبر عن نفسها من خلال السلطة , فانها تعيش في اتون الاستلاب والعبودية والازدراء , ليس بسبب عدم امتلاكها لامتيازات السلطة ومقدراتها والعيش بكرامة وتحقيق الهوية فحسب , بل لان الاخر سيتعمد التجاوز والتطاول والتمدد عليها قدر الامكان على قاعدة (ان كل وعي ينشد موت الوعي الاخر) التي ادرجها هيغل في ظاهرياته ايضا , وهذا الوعي الدنيء الذي يعيشه المجتمع الشيعي العراقي لم يتولد من فراغ ابدا , وليس قدر محتوم لايمكن تجاوزه , وانما هو احد اهم افرازات او اخلاقيات او طبائع الاستبداد , وماصنعته الانظمة الديكتاتورية – الطائفية والقومية في بلورة عقلية التبعية او ذهنية الخضوع للسيد الوهمي , فرغم الحرية التي توفرها السلطة عادة لاتباعها المقربين لها , او مايهبه النظام الديمقراطي لمواطنيه من امتيازات الاختيار, ورغم التحسن المعيشي الكبير التي حصلت عليه الطبقة الوسطى الشيعية او العراقية عامة (الطبقة الادارية حاليا وتوابعها) من خلال التغير الظاهر في نمط الحياة والتحول في البنية الاقتصادية , الا ان الفرد الشيعي نجد عنده رفضا - كما قلنا - وسخرية من هذه التحولات الايجابية التي عاشها , بسبب هيمنة الوعي الدنيء وروحيته المستحكمة عليه منذ قرون , وهذه المرحلة من الوعي لايتصور البعض انها تشكل قاعدة عامة يعيشها جميع ابناء وافراد المجتمع الشيعي , بل العكس فهناك فرسان ورجالا يقدرون الحرية كمعطى متسامي , ويقدسونها كقيمة متعالية بحد ذاتها , حتى لو لم يتبعها اي تحول ايجابي في المستوى الاقتصادي , بل حتى لو تبعها تراجعات وانكسارات على المستوى المعيشي والخدمي , الا ان هؤلاء للاسف يشكلون اقلية وسط هذا المحيط الشعبوي المترامي الاطراف , ويبدو ان مرحلة الوعي الدنيء هى من اهم اسباب التي تجعل هذا الفرد او المجتمع الشيعي يعيش حالة الرفض البنيوي للدولة , الامر الذي لايجعله في موضع الحماية والعصبة لها , وبالتالي انعدام الالتزامات الاخلاقية والعقلانية للدفاع عنها وصيانة مؤسساتها وديمومة حركتها وحياتها .
ان انعدام وجود العصبة للدولة العراقية بعد 2003 من قبل الفئات الاجتماعية الثلاث الشيعة والسنة والكورد والاحزاب التابعة لها من جانب او من قبل اتباع التيارات الوطنية والعلمانية والمدنية والاسلامية من جانب اخر ادى الى تلاشي مفهوم النخبة السياسية التي تاخذ على عاتقها قيادة الدولة والحرص عليها وتصحيح مسارتها واخطائها , رغم ان جميع تلك الفئات والاحزاب والتوجهات والتيارات هى مشاركة بالسلطة بطريقة او باخرى سواء من خلال الحصول على غنائمها وامتيازاتها ومقدراتها ومناصبها , او من خلال التبعات السلبية فيها كالفساد والتراخي واللامبالاة والتهرب من المسوؤلية وغيرها , وان المدخل الاساس لمفتاح الحل الاول للقضية العراقية والخروج من حالة الانسداد السياسي والاحتراب الاجتماعي وتحجيم الفساد المالي والاداري والتسيب الامني والخدمي لايكون الا بتشكيل عصبة اجتماعية وسياسية معينة تعتقد ان هذه الدولة دولتها , وان الاخطاء والسلبيات هى اخطائها وسلبياتها , وان الواجب المحتم عليها هو تصحيحها ومتابعتها , وهذا الامر لايحصل الا بوجود فرسان يتصدون للمسوؤلية ولايتهربون منها , رجالا اشراف يخجلون من التمتع والتنعم بامتيازات الدولة ومقدراتها كالحمايات والاعلام والاموال والنفوذ والهيمنة , فيما هم يتهربون من مسؤلياتها امام الناس والدول الاخرى اويتبرئون من سلبياتها واخطائها بحجج واهية , كالصراعات السياسية بين الاحزاب واتهام الاخر بالهيمنة على مؤسسات الدولة وغيرها , وبما ان الاغلبية الساحقة من الطبقة السياسية الحالية لاتمتلك الصفات الرجولية او الشرف الذي يجعلها في موضع تحمل المسوؤلة , فان المواجب على العراقين تاييد ودعم من يتصدى بقوة للمسوؤلية اولا , وليس العكس ترك المتفرجين والمتهربين , وبلورة طبقة سياسية اخرى من خلال التغيير في الانتخابات ثانيا , يشترط عليها – او تكون - نخبة الدولة واطارها العام , عسى ان تبرز لنا عصبة سياسية او اجتماعية تعتقد كليا ان هذه الدولة دولتها .
مقالات اخرى للكاتب