مدخل
-----------------
كان وسيبقى هاجس الاجهزة الاستخبارية هو هتك اسرار العدو وحفظ اسرار البلاد , ومن هنا جاء الاهتمام التاريخي بالشفيرة السرية .
والشفيرة هي طريقة مرموزة بالكلام والكتابة بين طرفين لا يفهمها سواهما, وتتم بالاتفاق على جدول تتقابل به ارقام وحروف لتقابل معان يدركها الطرفان فقط لتعمية الاخرين وصيانة الاسرار , ويتم فك اللغز بين الطرفين من خلال ارجاع الكلمات والارقام الى شكلها الاولي المقصود من قبل المرسل.
فمنذ الحرب العالمية الثانية وظهور الكمبيوتر، أصبحت الأساليب المستخدمة لتنفيذ التشفير تزداد تعقيدا ويزداد تطبيقه على نطاق واسع.وتستخدم الشفيرة للتحاور والتراسل وايصال الاخبار والرسائل والمواقف والبرقيات التي تحمل صفه السرية , فهي تستخدم في السياسة والعسكر والامن والاستخبارات والحكومة والمنظمات السرية والسفارات والمافيات والمنظمات الارهابية والتهريب.
وكما ان الحاجة ام الاختراع , فإن التشفير كعلم رياضي ادى الى تطوير اساليب رياضية لكسر الشفرة والاطلاع على اسرار العدو المشفرة , ليسير التشفير وكسر التشفير في طريقين متوازيين في التطور ومتضادين في المقصد .
والتَّـشفِـير طريقة لإرسال المعلومات بحيث لايستطيع سوى الأشخاص الذين لديهم مفتاح التشفير من الاطلاع عليها وفهمها , ويطلق على التشفير أحيانا علم التعمية أو علم الكتابة السرية أو علم حساب الجُمَّلية وهو علم معقد يخضع لحسابات رياضية وحساب اللوغاريتمات.
وقد تكون المعلومات المراد ارسالها بسرية رسائل مكتوبة أو محادثات هاتفية أو صورًا أو بيانات تنقل عبر وسائل الاتصالات الحديثة أو تحفظ وتعالج بوساطة الحواسيب, ومع التقدم السريع والمتنامي لوسائل نقل المعلومات (الاتصالات) ووسائل تخزينها ومعالجتها (الحواسيب)، فإن أهمية الرسائل المكتوبة أو البريد بدأت تتضاءل من ناحية، ومن ناحية أخرى، ازدادت الحاجة إلى الحفاظ على أمن المعلومات وسريتها.
والتشفير هو أهم طرق حماية المعلومات وأكثرها كفاءة خصوصًا إذا كانت المعلومات ستنقل على شبكات اتصال سلكية أو لاسلكية يسهل التنصت عليها، أو كانت المعلومات تتبادل في شبكات الحواسيب الحديثة الواسعة الانتشار التي يمكن اختراقها.
----------------------------------
التشفير وكسر الشفرة
----------------------------------
يعالج التشفير مسألتين , الأولى طرق إخفاء المعلومات المرسَلة من جهة لأخرى وهو ما يسمى بالتشفير ، وتختص الثانية بطرق معالجة المعلومات من قِبَل العدو الملتقط للرسائل المشفرة والتي لايمتلك لها مفتاحاً وتسمى تلك المعالجة بكسر الشفيرة .
فواضع الشِّفيرة يسعى لجعلها عصية عن الحل لضمان سرية الرسالة , ومحلل الشفيرة (العدو)يسعى إلى الهدف المضاد المتمثل في كسر الشفيرة ومعرفة محتوى الرسالة السرية أو تحريفها أو تزويرها بشكل يؤدي إلى قبولها على أنها رسالة صحيحة أو أصلية
فهدف التعمية هو ضمان سرية الرسالة أو حماية محتوياتها أو مصدرها من التحريف والتزوير، بينما يهدف تحليل التعمية إلى عكس ذلك تمامًا.
فالتشفير هو تحويل نص واضح (مكتوب أو منطوق) إلى نص غير مفهوم باستخدام طريقة محددة قد تكون غير سرية تعتمد على مفتاح سري خاص بالمتراسلين، بحيث يستطيع من يملك هذا المفتاح (ويعرف الطريقة) أن يعيد النص المعمَّى إلى أصله الواضح , بينما لا يستطيع أي شخص آخر لا يملك هذا المفتاح السري أن يتوصل إلى النص الواضح حتى وإن كان يعرف تفاصيل طريقة التعمية.
أما تحليل الشفيرة (كسر الشفيرة) فهي عملية التعامل مع النص المشفر للوصول إلى النص الواضح، وذلك من قبل العدو أو المحلل الذي لا يعرف مسبقًا المفتاح السري ، باستخدام الرياضيات والمنطق وخصائص اللغة المستخدمة وطبيعة الرسالة أوموضوعها وغير ذلك.
--------------------
أنظمة التشفير
--------------------
هناك نوعان من التشفير .. التشفير اليدوي الذي يتم انتاجه على الورق كشيفرة للتخاطب والنداء والتراسل وهناك تشفير الكتروني من خلال اجهزه تشفير تركب على الهاتف او جهاز الاتصال او الانترنيت وتقوم بتشفير الحوار او الرسائل ويقوم البعض باستخدام النوعين معا, وتنقسم أنظمة التشفير اليدوية إلى قسمين رئيسيين: التشفير بقلب الحروف او بتبديلها او باستخدام الاسلوبين معا بشكل متداخل .
ان طريقة القلب تعني تغيير مواقع حروف النص الاصلي وفق قاعدة محددة دون تغيير الحروف أنفسها, فيتم تقسيم النص الواضح إلى مجموعات، كل منها ذات طول محدد (مثلاً مجموعات من خمسة أحرف) ثم يتم تغيير مواقع الحروف ضمن كل مجموعة بطريقة معينة يحددها المفتاح السري. سواء بقلب الحروف الخمس رأسا على عقب او وفق اية طريقة رياضية بالتقديم والتأخير ,على سبيل المثال الطريقة الرياضية للشيفرة هي معادلة ان كل حرف ثالث يصبح اول , والاول يصبح رابع يزحف لمكان حرفين ،فيتم تشفير الرسالة الواضحة التي تقول(الطيران سيقصف فجر السبت)بأن تقسم الجملة إلى مجموعات يتكون كل منها من خمسة أحرف (أل ط ي ر – ا ن س ي ق – ص ف ي و م – ا ل س ب ت) ثم تبدل الحروف وفق المعادلة ضمن كل مجموعة , فتصبح الرسالة المشفرة ( ط ل ي أ ر – س ن ي ا ق – ي ف و ص م – س ل ب ا ت ) فتصبح الجملة المشفرة (طليار سنياق يفوصم سلبات ).
أما التشفير بالتبديل، فهي أن يتم تبديل كل حرف (أو حرفين أو كلمة) من النص الواضح للرسالة بحرف أو رمز أو رقم أو كلمة بطريقة معينة يحددها المفتاح السري , كما في استخدام الترقيم العربي للحروف وهو :
أ ب ج د هـ و ز ح ط ي , ارقامها العربية المقابلة هي 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 , والحروف : ك ل م ن س ع ف ص ق ر , ارقامها العربية المقابلة هي : 20 30 40 50 60 70 80 90 100 200 , والحروف : ش ت ث خ ذ ض ظ غ , ارقامها العربية المقابلة هي : 300 400 500 600 700 800 900 1000
وهو امر استخدمه العرب في الشعر لوضع تواريخ الوفيات والولادة وغيرها من المناسبات , كما لازال المشعوذون يستخدمونها في تعويذاتهم واحرازهم .
كما تستخدم أنظمة الرموز التي يتم فيها تبديل مقاطع من الكلمات او الجمل وتستخدم لهذا الغرض كتب أو سجلات للرموز المتقابلة تضم أعدادًا من الكلمات والمقاطع أو الجمل أو أجزائها وما يقابلها من الرموز, فعلى سبيل المثال قد تدل كلمة حمامة على الكلمة هجوم , وكلمة بيض الحمامة على جملة كاملة تعني مثلاً (تسير خطة الهجوم بنجاح), كما يتم احيانا عمل جداول لحروف اللغة ويقابل كل حرف منها حرف اخر مختلف وفق علاقة معينة , فلو كانت الرسالة الواضحة هي ¸انسحبوا·، فإن النص المشفر باستخدام تبديل الحروف ممكن ان يكون اية كلمة اخرى .
وقد يقابل كل حرف حرفان وليس واحداً,فالكلمة مدفع يقابلها في الترميز ازواج اربعة كل زوج من حرفين .
ويستخدم احيانا في التبديل مفتاح الشيفرة بشكل كتاب مطبوع وموجود لدى كل من الطرفين المتراسلين , ويتم فك الشفيرة لمراسلاتهما باستخدام التبديل الذي يتم فيه تشفير كل حرف او كلمة بمقابل له يشير للصفحة والسطر والكلمة .
---------------------
شيفرة المعركة
---------------------
تختلف شفيرة المعركة والشيفرة العادية من حيث الحجم والتفاصيل , فشفيرة المعركة اصغر شكلا وتحتوي على الضروريات فقط بلا اطالة عكس الشفيرة العادية العامة.
ان إعداد الشفيرة العسكرية من واجبات الاستخبارات لانها تتكلم عن العدو ومواصفات العدو واهدافه وحركاته , وتختص الاستخبارات العسكرية باعداد شفيرة المعركة التي غالبا ماتكون شهرية تستبدل كل شهر .
كما تقوم الاستخبارات من خلال مراصدها بالتأكد من ضمان عدم معرفة العدو بشفيرتها , ويتم ذلك من خلال الخداع ,فمثلا يتم النداء عبر الاجهزة اللاسلكية عن ان القوة الجوية سوف تقوم بقصف مواقع العدو , فبعد النداء تراقب الاستخبارات اجراءات العدو فان قام بتحضير دفاعاته الجوية واخذ الجنود يسارعون الى الملاجى فهذا مؤشرعن ان العدو يفهم شفيرتنا وقد اكتشفها.
وبرغم التطور الهائل في اجهزة الاتصالات العسكرية وامكانية التشفير الالكتروني , لكن تبقى هذه الامكانية قابلة للكشف من قبل العدو بطرق الكترونية ايضاً.
كما ان من واجبات الاستخبارات السعي لسرقة شفيرة العدو و فهمها وفك رموزها لتجنب المباغته والاستماع لاسرار العدو.
وتساعد المراقبة الميدانية في احيان كثيرة من كشف شفيرة العدو , فمثلاً لو رصدت الوحدة الفنية للاستخبارات ان كلما نادى العدو عبر اجهزته ب رقم 260 فانه يحدث قصف مدفعي , حينها تسجل الوحدة الفنية ( مراقبة الاتصالات ) ان هذا الرقم يعني قصف مدفعي , لذا تقوم الاستخبارات بوضع الشفيرة المربعة بحيث يكون لكل موضوع اربعة ارقام دالة عليه لارباك العدو , كما يتم ابدال الشفيرة كل شهر في المقرات الرئيسة وكل اسبوع في الجبهات لمنع استخبارات العدو من تثبيت استنتاجاتها .
--------------------
انواع الشيفرة
--------------------
تتنوع احجام واشكال الشفيرة فمنها:
1- شفيرة جيبية: صغيره بحجم كف اليد توضع في الجيب , وتستخدم غالباً من كبار القادة او في نداءآت الشرطةالمحلية و النجدة .
2- شفيرة ورقية : عبارة عن ورقة واحدة تستخدم اثناء المعركة وتسمى ايضا شفيرة الهجوم .
3- شفيرة كتابية : تكون على شكل كراس كبير وتستخدم في المقرات الرئيسة.
4- شفيرة الكترونية :تركب على اجهزة الاتصال والهاتف والحواسيب للترميز الالكتروني , فعندما تكتب رسالة يقوم البرنامج بالتشفير وترسل الرساله على شكل وردة مثلا , وفقط عند الشفيرة المقابله تستلم الورده وتتحول الى رساله مره ثانية. وهذه تستخدم غالبا في المحطات الاستخبارية والمصارف والسفارات.
-----------------
انغيما ..اللغز
-----------------
ومن امثلة التقنيات الآلية التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية هي آلة انجيما التي اخترعها العلماء الالمان وتعد الأعظم في أسرار الحرب وتطلَّب بناؤها أرفع درجات الهندسة الميكانيكية مع أعلى مرتبات العلوم الرياضية وهي عبارة عن آلة دقيقة لا يعرفها إلا أقرب العاملين فيها وأشطرهم من موظفي الاستخبارات الألمانية مع حراسة دائمة لهم حتى لا تتسرب أنباء الإنجاز النادر إلى أحد سواهم.
كانت آلات الإنيجما تقوم بالتشفير الميكانيكي المتغير , فنظام «إنيغما» كان نظام تشفير عبقري اعتمد على مليارات الرموز والمفاتيح وبذلك جسد أعلى مستوى من تقنية التعمية للرسائل السرية.
ومن خلالها كانوا يرسلون رسائل مشفرة عن تحركات سفن دول الحلفاء وتمكنت الغواصات الألمانية بفضل الشيفرة من إغراق مئات السفن ، وكانت دول الحلفاء عاجزة عن فعل شيء فإذا استمر الوضع هكذا فسيؤدي ذلك إلى خسارتهم للحرب دون شك ، فلم يكن لديهم حل سوى العمل على فك الشيفرة الألمانية المستحيلة.
واستطاعت قوات البحرية الأمريكية الحصول على آلة من آلات الإنيجما من غواصة ألمانية استطاعوا السيطرة عليها وأرسلوها لبريطانيا لتقوم بمحاولة فك الشيفرة الألمانية المستحيلة ومعرفة رموز ومفاتيح الآلة وطريقة عملها.
بعد سنوات من الدراسة والتحقيق المبني على الرياضيات والهندسة المرتبطة بها صنعت لندن جهاز فك الشيفرة الألمانية على يدعالِم رياضيات اسمه آلان تورينج.
وخلال مزاد علني بعد سنوات من نهاية الحرب في لندن بيع جهاز تشفير «إنيغما» تاريخي بنحو 86 ألف جنيه إسترليني ما يعادل الـ106 آلاف يورو, و نشرت صحيفة «باييس» الإسبانية قبل فترة أن الشرطة عثرت في أحد الأقبية بمدريد على 26 جهاز «إنيغما» ظل مختفيا أكثر من 70 عاما، ويعتقد بأن هتلر أهداها إلى حليفه الإسباني الديكتاتور فرانكو.
و«إنيغما» آلة شبيهة بالآلة الكاتبة الصغيرة وعبارة عن تجميع أنظمة كهربائية وميكانيكية معا,وتحمل لوحة مفاتيح ومجموعة من الأقراص الدوارة مركبة بشكل متقارب على طول محور وآلية خطوية لتدير واحد أو أكثر من الدوّارات مع كل ضربة على الأزرار، ويتحرك الدوار المجاور بين الحين والآخر باتجاه عقارب الساعة وتعطي الحركة المتواصلة للدوارات تحولا مختلفا للتعمية بعد كل ضربة على الأزرار. فعند الضرب على حرف «أ» يضيء حرف «ز» فيكون أول حرف من الكلمة المشفرة.
ومخترع هذا الجهاز هو المهندس الكهربائي الألماني أرتور شيربيوس عام 1918 ثم طور ليصبح أصغر حجما وأقل وزنا وفي عام 1930 اعتمده الجيش الألماني.
الان اصبح فك الشفيرة وقراءة الشيفرات لا يعتمد على الجهد البشري وخبراء فك الشفيرة بل على حواسيب مصممة لهذا الغرض لها القدرة على قراءه البيانات والفرضيات واستخلاص النتائج.
-----------------------------
الشفيرة في العراق
-----------------------------
للاسف الشديد فان علينا ان نصدم القاريء بأن اجهزة الاتصالات العسكرية في العراق شبه معطلة وتشترى لتُخزّن , واكثر الهوائيات التي يراها المواطن فوق العجلات هي للزينة والتفاخر , لأن الجميع قادة وآمرين وضباط يتواصلون بجهاز الموبايل بلا شفيرة او رموز او خوف من تنصت العدو وبلا اية مراعاة للسرية والكتمان.
ويكفي ان تحصل على جهاز اتصال يدوي من الذي تستخدمه الشرطة ( والذي يباع على الارصفة), حتى تسمع اسماء الضباط والاوامر والتوجيهات بلا رموز او مفاتيح او ترميز اوتشفير الكتروني بشكل صادم.
فاصبح جهاز اللاسلكي جزء من قيافة ضابط الشرطة وجزء من المظاهر والتبختر ولكن كل شي مفتوح بلا اية شفيرة او رموز وكأنه هاتف ارضي وبرغم فوضى تواجد مراسلي القنوات الفضائية ومئات الافلام عن قواتنا في جبهات القتال مع داعش, ولكن المواطن لم يشاهد لقطة يحمل فيها جندي جهاز اتصال كبير, مصداقاً لكلامنا وهو امر مريع.
-----------------
خلاصة
-----------------
الاستخبارات هي عالم الاسرار واحد تلك الاسرار الواجب تأمينها هي المراسلات مما تطلب تطوير الشفيرة السرية والسعي لتعقيد حل الغازها , والسعي للحصول على شفيرة العدو وكسرها , ففي عوالم الاسرار كل شيء مرمز , ومالم تكتشف الرموز فسوف لاتستمع من مكالمات العدو سوى لطلاسم واحجيات , والله الموفق
مقالات اخرى للكاتب
