كوردستان ومفهوم استقلال الدولة من منظور الفكر السياسي المعاصر
اليوم وفي ظل النظام العالمي الجديد وفي زمن العولمة يمكننا أن نتحدث بكل سهولة عن "الإنسان العالمي"، الذي لا يسدل الستار علی عقله ، بل يستفيد من كل تلك الإمكانيات الحديثة ، ليتشكل لديه مساحات وأمداء جديدة للفكر والقول والعمل. وعلاقة العولمة مع الواقع هي غير النظرة ، التي كانت تتجسم في زمن سيادة الايديولوجيات العالمية أو الأممية.
فهي لا تحول العالم الی شعار ولا تختزله الی مجرد عقيدة. كما هي ليست تجسيد لفكرة أو إنعكاس لصيغة ، بل هي صناعة واقع جديد عبر الحواسيب وبنوك المعلومات ، التي يتحول معها كل معطی عيني أو ذهني الی كائن رقمي. وهذا الكائن الرقمي العامل عبر الشبكات يشعر وكأنه سائح جوّال عبر كل الأمكنة دون أن يبرح من مكانه.
الفكر السياسي الحديث والمعاصر تهتم بشكل بليغ بمفهوم السيادة وإستقلالية الدولة وسيادتها علی أقاليمها وبما أن لإستقلال الدولة أثر إيجابي علی السلام والإستقرار الدولي والإنساني علینا معرفة شروط ومقومات استقلال الدولة في الفكر السياسي المعاصر.
فالنظام العالمي المعاصر تفسح المجال أكثر من الماضي لتداخل المصالح وتشابكها القائم علی التماييز بين دول كبرى مالكة لقرارها السياسي ومتمتعة بسيادتها ومتحكمة في السياسات الدولية وبين دول صغيرة وضعيفة وغير مالكة لقرارها ولسيادتها ، بالرغم من زوال زمن سيادة الايديولوجيات العالمية أو الأممية ، التي حولت كما ذكرنا أعلاه العالم في الماضي الی شعار وإختزلته الی مجرد عقيدة لا غير. يمكن القل وبكل صراحة بأن المدارس والنماذج ، التي كانت رائجة استهلكت والنظريات ، التي كانت في يوم من الأيام آيات بيؔنات ، أخفقت في تشخيص الواقع العالمي لإيجاد مخارج من الأفخاخ والمآزق. فمن أجل إدارة المصلحة العمومية وصناعة حياة مشتركة نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضی الی تغيير يطال الأفكار والأدوار والمهمات وصور الحياة وأساليب العيش وقواعد المعاملة ، بعيداً عن العيش والممات داخل مقولات مثل الأحادية والقداسة والتأله والنخبة والبطولة والإحتكار والقوقعة والمعسكر.
بالطبع "الإنسان العالمي" ينحو نحو مفاهيم تعكس الإعتراف والتعدد والنسبية والمداولة والشراكة والقوة الناعمة ، يتعامل مع الآخر كشريك فاعل في إدارة المصالح وصنع المصائر . هذا ما تسعی اليه دول الإتحاد الأوروبي بسياساتها وإقتصادها وعلومها الأخری.
من منظور القانون الدولي يمکن إعتبار استقلال الدولة شرط ضروري للاعتراف بشرعية الدولة بل هو شرط أساسي في تعريف الدولة ، فبعض من أساتذة القانون الدولي يعرؔفون الدولة كـ"وحدة قانونية دائمة تتضمن وجود هيئة اجتماعية لها حق ممارسة سلطة قانونية معينة في مواجهة أمة مستقرة على إقليم محدد. من الواضح بأن الدولة تباشر حقوق السيادة بإرادتها المنفردة ، وذلك عن طريق استخدام القوة المادية التي تحتكرها. لحسن الحظ هذا الشرط متوفر في حالة إقليم كوردستان بفضل الجهود الجبارة للقيادة السياسية الحكيمة الواعية والساعية الی حفظ الإستقرار فيه ودفعه نحو إزدهار وتقدم أكثر.
الإستقلال والسيادة توأمان لايفترقان ، فالسيادة كالإستقلال يعني ممارسة الدولة لقرارها السياسي داخلياً وخارجياً وفق إرادتها الحرة أو عدم خضوعها لأي سلطة داخلية كانت أو خارجية ، حیث لا يحق لأي جهة أن تفرض قوتها على الدولة في منطقة نفوذها.
داخلياً تمتلك الدولة امتلاكها السلطة المطلقة على جميع الأفراد والجماعات والمناطق الداخلة تحت حكمها وتستمد شرعيتها من التعاقد بين الحكام والمحكومين وصناديق الإقتراع هي التي تثبت شرعية الدولة وتخولها لتشريع القوانين والنظم وإلزام الناس بها حفظاً لمصالِحهم وصوناً لهيبةِ الدولة كما تخول لها تدبير شؤون البلاد سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتعليمياً وقضائياً. وقوة الدولة و نموها الإقتصادي فتبنی بحكم القانون لا بالخصخصة ، كما يتصوره الكثير من دعاة الإقتصاد الحر.
أما خارجياً فمبدأ استقلال الدولة يعني سيادتها واستقلالها فعلياً وقانونياً في ممارسة قرارها الدولي بعيداً عن سيطرة أية دولة أخرى أو توجيهها واعتراف الدول الأخرى بها ، وحقها في التمثيل الدبلوماسي ، وعضوية المنظمات الدولية ، وحريتها في اتخاذ القرارات الدولية على الصعيد الخارجي وعلى صعيد العلاقات الدولية من دون قيد أو تردد أو إكراه أو ضغط إلا الالتزامات التي يقرها القانون الدولي والمعاهدات الدولية الثنائية والإقليمية في نطاق الندية والاحترام المتبادل.
مفهوم الدولة يتربع عرش الفلسفة السياسية ، لما يحمله من أهمية قصوى سواء اعتبرناه كياناً بشرياً ذو خصائص تاريخية ، جغرافية، لغوية ، أو ثقافية مشتركة ، أو مجموعة من الأجهزة المكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع. والدول لها فلسفة تنطلق منها في بناء مستقبلها السياسي والفكري والإقتصادي والإجتماعي ، وهذه الفلسفة هي التي تحدد مسار الدولة أومدى نجاحها وتقدمها. ولكل دولة أهداف يمكنها الوصول اليها من خلال عملها علی تقييم مسارها في كل مرحلة من المراحل التي تمر بها أو تعديل مسارها وتحديد نقاط الضعف والقوة، تلك أساليب يمكن إستخدامها لزيادة قوة الدولة إقتصادياً وسياسياً وإجتماعياً وفكرياً.
إن فن بناء الدولة سيكون مستقبلاً المكون الرئيسي للسلطة القومية ، وأهميته كأهمية القدرة على نشر القوات العسكرية التقليدية من أجل المحافظة على النظام في العالم. هنا يسعی إقليم كوردستان الی الحصول علی إعترافات دولية للحصول علی التكافٶ في الإستقلال والتساوي في ممارسة سيادته الداخلية والخارجية وإحتلال المكانة اللائقة بين الأمم ، فهو حق من حقوق الشعب الكوردستاني بعد كل هذه التحولات الجذرية في المنطقة والتي شكلت فرصة وجودية أمامه ، ليشارك بروابطه الأفقية وهويته المفتوحة علی التعدد والإختلاف وإتقانه للغة الشراكة والمسٶولية المتبادلة مع الغير الركب العالمي ويمارس حيوته و يصنع نفسه ويشارك أخيراً في صناعة العالم بصورة إيجابية وبناءة.
وختاماً يقول الخالد نیلسون مانديلا: "إنني أٶمن بحقي في الحرية وحق بلادي في الحياة وهذا الإيمان أقوی من كل سلاح".
مقالات اخرى للكاتب