يمكن القول أنّ ثمّة اليوم ثلاث مدارس في الصحافة العالمية حول علاقة الصحفي بالسياسة :
الأولى : " المدرسة الأميركية " التي ترى عدم جواز الأنحياز السياسي للصحفي الى درجة أن
العديد من المؤسسات الاعلامية الأميركية تمنع الصحفيين العاملين فيها من الكشف عن ميولهم السياسية خارج اطار العمل بهدف الحفاظ على موضوعية واستقلالية المؤسسة وبحسب مجلة " النيويوركر" الأميركية ، فان العديد من الصحف في الولايات المتحدة لا تسمح للصحفيين بالتعبير عن آرائهم العامة أو المشاركة في تظاهرات أو تعليق رموز انتخابية أو ملصقات على خلفية سياراتهم ، وترى ان على الصحفي التزام جانب الحياد عندما يغطي مظاهرة او مؤتمرا جزبيا او اي نشاط سياسي آخر و ان يكون متوازناً وينشر الآراء المختلفة لأنه لو أنحاز الى جهة ما فأنه يفقد مصداقيته وقراءه من ذوي الأنتماءات السياسية الأخرى .
ولقد بالغ رئيس تحرير صحيفة ( الواشنطن بوسط - Washington Post) في هذا الأمر كثيراً الى درجة أنه رفض الأدلاء بصوته في الأنتخابات الرئاسية لكي لا ينتهك مبدأ عدم الأنتماء السياسي للصحفي ، مؤكداً ان الدور الاعلامي الذي يلعبه الصحفي يحول بينه وبين الأنحياز السياسي ليوفر لنفسه ولقراءه فرصة أوسع من التحليل الموضوعي لشتى الأحداث والمواقف من غير تدخل الميول والمزاج السياسي .
وترى هذه المدرسة ، ان العمل الأعلامي هو أحد ميادين التحليل والحكم الدقيق وهو عالمي ووطني اكثر مما هو فئوي أو أيديولوجي ، فهو كالقضاء المستقل بطبيعته الداخلية يرفض ان يتماهى مع الأنتماء السياسي المحدود .
الثانية : "المدرسة الأوروبية " التي لا تمانع أن يكون للصحفي انتماء سياسي خارج اطار العمل ، على ان يلتزم بالمعايير المهنية للصحافة المستقلة ، لأن الكثيرين من أفراد المجتمع - اي مجتمع - لديهم ميول سياسية ، ولا ضيران يكون للصحفي أيضاً رأي سياسي أو حتى انتماء سياسي ولكن العيب والخطا هو أن يتم تغطية الاخبار والاحداث ليس كما تقع على ارض الواقع ، وانما كما يهوى الصحفي وما يحقق من خلال تغطيته للجهة التي ينتمي اليها او للوسيلة الأعلامية التي يعمل فيها ، فالمطلوب اذن وعي الصحفي لأدوات ومعايير العمل الصحفي وأدراكه لدور الصحافة والتزامه بالمصداقية والحيادية أي ان يكون الانتماء السياسي خارج العمل الاعلامي المهني.
الثالثة : هي" مدرسة عالمية " تقسم الصحافة الى نوعين ،
الأول : صحافة بلا موقف سياسي : وهي الصحافة ، التي لا تعبر عن اتجاه سياسي معين ، أو تتبنى أيديولوجية بعينها ، وأنما تفتح صفحاتها لكل الآراء والأتجاهات السياسية ، والأجتماعية ولكل أصحاب الرأي على أختلاف رؤاهم . وتركز على الموضوعات التي تهم القاريء العادي وتخاطب عواطفه بالدرجة الأولى ، كالجرائم والجنس والرياضة وأخبار المجتمع وفضائح المشاهير والأحداث الطريفة والغريبة والمسلية .
والثاني : صحافة ذات موقف سياسي :
لكل صحيفة بصرف النظرعن حجم انتشارها سياسة ما ،. ويلعب تمويل الصحيفة دورا في تحديد سياستها التحريرية ومواقفها من قضايا المجتمع ، وتنتمي غالبية الصحف الصادرة في أوروبا الشرقية والبلدان النامية الى هذا النوع من الصحافة تحديدا ، على خلاف الصحف الغربية ذات الأتجاه السياسي ، التي تتسم بالمهنية ولا تخلط بين الصحافة والسياسة ، بل تلتزم بأخلاقيات العمل الصحفي ، وفي مقدمتها صحافة النخب المؤثرة في المجتمع ، التي تتسم موضوعاتها بالدقة والموضوعية وتتصف معالجتها للأحداث بالأتزان وتميل الى التحليل المعمق للأحداث السياسية المحلية والدولية وتتجنب نشر الفضائح ، الا اذا كانت لها أهمية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ، ولعل خير مثال على هذا النوع من الصحف، صحيفة " الغارديان " البريطانية ، التي يرى خبراء الصحافة ، أنها الجريدة الليبرالية الأولى في العالم ، الا أنها أنتقدت بشدة الأدارة الأميركية الليبرالية عند نشرها وثائق " سنودين " وجسدت بذلك القيمة الأكثر أهمية في العمل الصحفي وهي الأمانة المهنية .. وأنها على استعداد لإلحاق الضرر بالتيار الذي تمثله باسم الحقيقة. وهي تدافع ليس عن المصالح السياسية لحلفائها ، بل عن المساءلة والشفافية في الحكومة ، وتوازن السلطة و حق الشعب في أن يعرف مع الحرص على عدم أنتهاك الخصوصية الشخصية .
الحياد الأعلامي :
صفة الحياد مبدأ أساسي من مباديء الصحافة المستقلة ، تماما كالجهاز القضائي ، فالقاضي المنحاز لأحد طرفي القضية تنتفي صفة الحياد منه و يعتبر غير جدير بممارسة مهنة القضاء ، لأن هدف القاضي هو التحري عن الحقيقة واقامة العدل وانصاف المظلوم .
الأخلاقيات المهنية تتطلب تطبيق القيم الأعلامية الرئيسة بمصداقية ودقة لضمان تغطيات محايدة تعكس تنوع الآراء ووجهات النظر المتعددة وعلى نحو متوازن والتحقق من عدم وجود جهة لم يتم عكس آرائها بشكل منصف . وتجنب ما يسيء الى قسم من الجمهور المتلقي ، والتعامل بأمانة مع مصادر المعلومات واتاحة الفرصة للرد من قبل من يمسهم الموضوع.
واذا اراد الصحفي أبداء وجهة نظره الخاصة حول مسألة سياسية فأن المجال مفتوح أمامه من خلال مواد الرأي الحرة أو الموجهة التي قد تكون على شكل مقالات أو أعمدة صحفية تتيح لكاتبها حرية أضفاء مواقفه الأيديولوجية وانطباعاته الشخصية على الحدث .
ولكن الممارسات الصحفية في شتى أنحاء العالم تثبت با لا يدع مجالا للشك ان هذا المبدأ يكاد أن يكون غير قابل للتطبيق من الناحية العملية ، حتى ان بعض منظري الأعلام ينفي وجود الحياد الإعلامى أصلاً . وكما أشرنا آنفاً ، فأن لكل وسيلة إعلامية سواء كانت حكومية أو حزبية او خاصة سياستها التحريرية التى تعبر عن مصلحة مالكها أو الجهة الممولة لها . والحياد لايمكن توافره في ظل وجود مصلحة مادية أو سياسية .
وبقدر تعلق الأمر بالصحفي نفسه ، الذي يغطي الأحداث السياسية ، ليس من السهل عليه أن يكون محايداً دائما .افهو ليس مجردا من الحس الأجتماعي والرؤية السياسية ، وليس بانسان آلي يقوم بنقل الأخبار فقط ، بل هو شخص يعايش الحدث أكثر من الآخرين .
وفي الوقت نفسه فأن الحياد الأعلامي المنشود وثيق الصلة بمدى الحرية التي يتمتع بها الصحفي في تغطيته للأحداث أو تناول أي موضوع يراه مهما ، فهو لا يمكن ان يكون حياديا عند تغطيته للأحداث السياسية ، مع وجود خطوط حمراء لا يمكنه الأقتراب منها أو مصلحة تفرض عليه حجب بعض الحقائق .
هل عفا الزمن على قاعدة ( الخبر مقدس والرأي حر) ؟
في نظرية الأعلام قاعدة تقول أن ( الخبر مقدس والرأي حر ) ويتبغي الفصل التام بينهما .
،فالخبر يكتسب صفة القدسية ، من واقعيته ، وحقيقة حدوثه ، ولا بد من التحري الدقيق قبل نشره ، لأن دور الصحفي هو تغطية الخبر بصدق وأمانة و ايصاله للمتلقي دون تشويه او تحريف او محاولة تطويعه لسياسة الوسيلة الأعلامية التي يعمل فيها ، فطالما هناك حدث ، مهما كانت درجة خطورته أو تأثير تداعياته ، يجب ان يعرفه المواطن ، فهذا حق من حقوقه ( المواطن ) وواجب الصحافة في آن واحد .
ولكن البعض يجادل بأن هذه القاعدة قد عفا عليها الزمن وأصبحت بالية في عصرنا الراهن ولا يتقيد به معظم الأعلاميين حاليا ، بل على النقيض من ذلك ، كل الأخبار تحمل اليوم رأياً ، وان الحدث الواحد يعرض في وسائل الأعلام بصيغ مختلفة ، وكل صيغة تستبطن رأياً أو توجها تسوس الخبر حسب رؤية الوسيلة الأعلامية للحدث .
والحق ان الخبر الذي لا يحمل رأيا لا يجذب الأنتباه ، لأن الجمهور غير متجانس في ميوله السياسية ، وتوجهاته الفكرية ، وخلفياته الثقافية وغير محايد كما وسائل الأعلام ،فهو يبحث عن الوسيلة الأعلامية التي تدعم ميوله السياسية ، وتتفق مع توجهاته الأيديولوجية. وأي وسيلة اعلام تعمل بمبدأ الحياد ستلقى الأعراض من الجمهور وتكون بضاعتها كاسدة .
إن تجريد الخبر عن قدسيته لصالح الرأي يتجلى بأوضح صورها في البرامج النقاشية للقنوات الفضائية ، عبر استضافة المحللين السياسيين الذين تنسجم توجهاتهم السياسية والفكرية مع سياسة تلك القنوات ، حيث نرى كل واحد منهم يتناول الخبر الواحد من زاوية معينة ، وقد يصل الأمر بهم الى التقليل من اهمية الخبر مدار الجدل أو حتى التشكيك في صحته . ،. ونرى على هذا النحو ان الرأي يطغى على الخبر ، وتضيع الحقيقة في خضم التحليل . والفضائيات تمنح للرأي مساحة ووقتاً أكبر بكثير من مساحة ووقت عرض الخبر ، وبذلك تعبرعن وجهة نظرها في الحدث على نحو غير مباشر .
مقالات اخرى للكاتب