العراق تايمز ــ كتب كاظم فنجان الحمامي: نشعر دائماً بالحزن, وتغمرنا الحيرة والدهشة, كلما راجعنا سجلات الرجال الأفذاذ, الذين شيدوا صروح الموانئ العراقية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي, فترتسم على وجوهنا أكثر من علامة استفهام, فلا مؤهلاتهم العلمية تشبه مؤهلات الأجيال اللاحقة, ولا تطلعاتهم المستقبلية ونوازعهم الذاتية تشبه تطلعات ونوازع الأجيال المتلهفة للتقافز بأي ثمن فوق سدة المناصب العليا. .
اتصلت منذ بضعة أيام برئيسة المهندسين السيدة الجليلة لمياء بنت الشيخ الفاضل علي بن عبد الله الرشيد (أم دحام), طلبت منها الرد على أسئلتي المهنية المرتبطة بحياة زوجها الراحل (فالح الموسى), الذي شغل المنصب الأعلى في الموانئ العراقية للمدة من 1986 إلى 1988, فعلمت منها أنه قطع شوطا كبيراً في دراساته الهندسية التخصصية في الجامعات والمراكز العلمية البريطانية, وأنه ارتوى من منابعها الغنية, فحصد منها ثمار الدرجات الرفيعة. .
أعلى المراتب الهندسية
ولد الأستاذ فالح بن محمود بن موسى بن أحمد الموسى عام 1931 في ضواحي البصرة, وأكمل فيها دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية, وكان من المتفوقين على أقرانه في الإعدادية المركزية. سافر إلى العاصمة ليلتحق بكلية الهندسة في جامعة بغداد, فتخرج فيها عام 1953 بتقدير (امتياز), ومرتبة الشرف في الهندسة.
ضمته الموانئ العراقية إلى ملاكها الهندسي في الرابع من تموز عام 1953, لكنها قررت إرساله إلى الخارج في بعثة دراسية على نفقتها الخاصة, فشد الرحال إلى مدينة الضباب ليلتحق بالكلية الإمبراطورية بلندن, ويكمل دراسته التخصصية هناك, حصل منها على التعادل العلمي لشهادة البكالوريوس عام 1955, وحصل أيضاً على شهادة الدبلوم في الهندسة عام 1956, ثم حصل على شهادة الماجستير في الهندسة عام 1958 من جامعة لندن.
من طوكيو إلى باريس
لم ينقطع عن دراسته التخصصية بعد عودته من لندن, ولم يتوقف عن القراءة المعمقة, فلم يتخلف في يوم من الأيام عن الالتحاق بدورات التأهيل العلمي في العواصم العربية والآسيوية والأوربية, وكانت اهتماماته منصبة على مواصلة التعليم والتعلم, وكأنه في سباق حثيث مع الزمن. .
انطلق من محطته الأولى في طوكيو لدراسة الخيارات المتاحة لإنشاء الأرصفة الخراسانية في المعقل والعشّار, ثم انتقل إلى محطته الثانية في الإسكندرية ليدرس معطيات الأنظمة المينائية الجديدة وتطبيقاتها الصحيحة في احتساب الأجور والعوائد, وعاد في الشهر الأول من عام 1970 إلى محطته الأولى في طوكيو للتعرف على الأساليب اليابانية المعتمدة في إدارة الموانئ, وتوجه في الشهر السادس من العام نفسه إلى محطة علمية أخرى في باريس للتعرف على المعدات المينائية المستعملة في مناولة البضائع, عاد ثانية إلى محطته الفرنسية لدراسة التقنيات المستحدثة في تشغيل الحواسيب المينائية, وشارك في المؤتمر الدولي الذي عقدته الأمم المتحدة في مومباسا بكينيا لتذليل العقبات المينائية في البلدان النامية, وكان رئيساً للوفد العراقي, وشارك عام 1983 وعام 1987 في اجتماعات الجمعية العمومية للمنظمة البحرية IMO.
عين على المنظمات المهنية
لم تشغله المشاكل المينائية عن واجباته الأخرى المرتبطة بالنهوض بنقابة المهندسين بالبصرة, ولم يتراجع عن دوره الريادي في الارتقاء بمشاريع تطوير مدينته, التي ولد فيها, ونشأ وترعرع في مرابعها, وكان منذ تأسيس النقابة هو الأمين العام لسرها, ثم رئيساً لها, فكان من أول المساهمين في رعاية المهندسين, ومن الساعين لضمان حقوقهم, ومتابعة أنشطتهم, ومن المتشددين في محاسبة المخالفين منهم, لكنه كان أول المنسحبين من عضويتها بعد تحولها إلى منظمة شبه سياسية تتقاذفها أمواج الخلافات الحزبية, بيد أن عينه ظلت تراقب أدائها من بعيد, فيحرص أشد الحرص على تصحيح الانحرافات الطارئة في مساراتها المتقلبة بين التوجهات المهنية المرنة وبين التوجهات الحزبية المتشنجة.
وكان رحمه الله رئيساً لنادي الميناء (Port Club) في المعقل لسنوات طويلة, وهو من أكبر وأقدم وأجمل النوادي المينائية والثقافية والرياضية في العراق, وكان هذا النادي الجميل هو الملاذ السياحي والترفيهي لطواقم السفن الأجنبية الوافدة على موانئ البصرة, تعقد فيه الندوات والمؤتمرات والاحتفالات البحرية من وقت لآخر بإشراف وتوجيه سلطة الميناء, وعلى رأسها الأستاذ فالح الموسى.
السلم الوظيفي الذهبي
نحن نتحدث هنا عن مهندس مبدع من المهندسين الأوائل, الذين واكبوا مراحل ارتقاء الموانئ العراقية نحو الأفضل للمدة منذ عام 1958 وحتى عام 1988, ففي عام 1958 كان هو المهندس الأقدم في الموانئ حتى عام 1961, ثم أصبح هو المهندس المقيم لمشروع ميناء أم قصر للمدة من 1961 إلى 1964, وتعرض لمحاولة اقتلاع جذوره من الموانئ بترشيحه لمنصب المدير العام لبلدية البصرة بقرار مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة في 2/حزيران/1963, لكنه لم يلتحق بالبلدية رافضاً التخلي عن عرينه في الموانئ, ثم أصبح معاونا لرئيس المهندسين المدنيين للمدة من عام 1964 على عام 1967, تبوأ بعدها منصب رئيس ميناء المعقل للمدة من 1967 إلى 1974, وصار في المدة نفسها عضوا في مجلس إدارة شركة النقل البحري, ونُسب للقيام بأعمال رئيس الإدارة في مصلحة الموانئ العراقية إضافة لوظيفته كرئيس لميناء المعقل, ومنحوه صلاحيات مدير عام المصلحة بالوكالة عند غيابه, وارتقى إلى درجة رئيس المهندسين في عموم المؤسسة العامة لموانئ العراق للمدة من 1974 إلى 1977.
تغير عنوانه الوظيفي إلى مدير عام بموجب أحكام المرسوم الجمهوري رقم (105) في عام 1977, وهو أول مدير عام للموانئ من مدينة البصرة, وكان في تلك المدة رئيسا لإدارة اتحاد الموانئ البحرية العربية, وسكرتيرا عاما للمركز العربي للتنسيق والاستشارات البحرية في ضوء ترشيح وزارة النقل والمواصلات بكتابها المرقم 18630 في 22 / شباط / 1982.
الأشجار تموت واقفة
في اليوم الثاني من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1988 انقطعت صلة هذا الرجل العملاق بالموانئ العراقية بناء على قرار ارتجالي منفعل, اتخذه على عجل وزير النقل والمواصلات وقتذاك (محمد حمزة الزبيدي), من دون أن يرتكب الأستاذ فالح الموسى أي خطأ, فانقطعت صلته بالموانئ العراقية في الوقت الذي كانت فيه الموانئ في أمس الحاجة لخبراته المينائية المتراكمة من أجل توظيفها لاستعادة أنشطتها المعطلة بعد سنوات الحرب الطويلة, التي دمرت بنيتها التحتية والفوقية, فخسرت الموانئ أقوى زعمائها بقرار ظالم. .
غادر فالح الموسى قلعته المينائية مرفوع الرأس, لا يملك بيتا من دور الموانئ المجانية, ولا يملك رصيداً في البنك, ولا حقلا زراعياً, ولم يكن لديه أي استثمار في القطاع الخاص, فتوجه إلى بيته في حي الميثاق بقلب مطمئن, ونفس راضية, وهامة مرفوعة, لم تظهر عليه أي علامة من علامات الانزعاج والتذمر, فالخاسر هنا هو الموانئ العراقية, التي فقدت أكفأ رجالها, بينما كان هذا الرجل النظيف الشريف هو الرابح الوحيد. .
عاش فالح الموسى سنواته الأخيرة متواضعا متعففاً في مدينته المينائية الجميلة, التي لم يفكر بمغادرتها, فانصرف مع زوجته المربية الفاضلة نحو تكريس جهودهما كلها من أجل تدريس أولادهم وبناتهم, وتربيتهم على المبادئ العربية الأصيلة, فكان أبنهما الأكبر (دحام) من كبار الأطباء, وابنهما (هشام) من أروع المهندسين, وابنهما بسام من أكفأ مهندسي الحاسبات, وابنتهما (همسة) تحمل شهادة البكالوريوس في العلوم, وابنتهما (دينا) مهندسة زراعية واعدة. .
لم يكن يبخل أبداً بتقديم النصح والمشورة لتلاميذه من المهندسين والربابنة والمرشدين البحريين, أذكر أن مدير ميناء أم قصر الأسبق (الكابتن عادل خلف) كان دائماً يتردد على بيته لطلب المشورة, فكان رحمه الله يستقبله بحفاوة بالغة, ويوجهه مثلما يوجه أولاده.
انتقل الموسى إلى جوار ربه في اليوم الأول من الشهر الرابع من عام 2008, تاركاً وراءه سجلاً حافلاً بالانجازات المينائية الكبيرة, فطوت البصرة صفحة ناصعة من صفحاتها المشرقة, لكنها مازالت تقف إجلالاً واحتراماً لهذه القامة الهندسية السامقة, التي ماتت واقفة على ضفاف شط العرب. .