تحدثنا فيما مضى عن هذه الآية {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} البقرة 213، ووجدت أنها تحتاج الى مزيد من البيان، إذ نحتاج الى معرفة أكثر دقة عن معنى كونهم أمة واحدة، وخير ما نستعين به هو التفسير الروائي الذي جاء عن الأئمة ومنه :
((عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال : قلت له : (كان الناس أمة وحداة) لا مؤمنين ولا مشركين (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)؟. قال : (كان الناس أمة واحدة) لا مؤمنين ولا مشركين (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) فثم وقع التصديق والتكذيب)). الأصول الستة عشر، القرن الثاني، 286، تحقيق ضياء الدين المحمودي.
وهذا البيان من أفضل ما يمكن تفسير الآية به، فهم لامؤمنون و لامشركون، فأي شيء يكونون سوى المجتمع الذي يمكن وصفه بالمجتمع القريب من الحياة البهيمية، لأن معنى الإيمان أو الشرك هو القبول أو الرفض سواء لدوافع فكرية أو نفسية، وهذه الحال لا يتصف بها سوى المجتمع الذي يرقى الى مستوى من المدنية، فالقبول بفكرة دينية يستلزم وجود تفكير فلسفي مهما كان متدنياً، لأن أساس الدين هو البحث عن العلة والأسباب وراء وجود الأشياء، ومنه الديني المشرك، فقد عبدت الظواهر الكونية والطبيعية لتأثيرها في حياة الإنسان، فقد عبدت الشمس والقمر والأنهار والنار والرياح وغير ذلك، ومع أن هذا من الشرك حسب مفهومنا إلا أنه مع ذلك مستوى من مستويات التفكير الإنساني الباحث عن ما وراء الأشياء أو لطلب الحماية منها. وهذا ما لم يكن متوفراً فيما قبل آدم حيث المجتمع البهيمي الذي لا يعرف الاستقرار وهو من متطلبات الزراعة التي عرفت منذ حوالي عشرة آلاف عام.
أما عدم اختلافهم فهو طبيعي لعدم وجود مفاهيم مشتركة يمكن أن يختلفوا عليها فضلاً عن أن يتفقوا عليها، فالإنسان كان مجرد سائح يبحث عن قوته بالصيد أو الالتقاط، فإذا حصل مايؤدي الى نقص الموارد الحيوانية أو النباتية انتقل للبحث عن مورد آخر في موضع آخر، وهذا قد يفسر انتقال سكان الجزيرة العربية منذ القدم الى وادي النيل والعراق، ومن هنا لم تكن هناك قرية أو تجمع سكاني معتد به، نعم كانت هناك تجمعات متقاربة نسبياً إلا أن هدفها كان مشتركاً وهو الغذاء وهو ما لايتطلب نزاعاً بين نفس الفصيل، ولكنه قد يحدث فوضى بين تجمعات أخرى أو إنسان من نوع آخر، أي النزاع حول السيطرة على الموارد شأنهم شأن القطعان من الحيوانات، وهو على أية حال ليس اختلافاً يستحق أن يبعث لأجله الأنبياء، إذ نلاحظ أن الأنبياء إنما يبعثون لحل مشاكل دينية واجتماعية وليس الدخول وسط معترك حيواني أو صراع من أجل البقاء. كما أن الأنبياء هم نتاج مجتمعهم وإن كانوا أعلى طبقة واعية، ولا بد من وجود مفاهيم متعارفة بين النبي وقومه ليقوم النبي بالنهي عن بعضها والأمر بأخرى أو إيجاد مفاهيم مبتكرة، ولا بد أن يكون هناك لغة ليبلغ بها النبي إذ لا يعقل أن يبلغ نبي بالإشارة أو بلغة بدائية مشوشة، كما أن إرسال الأنبياء لا بد أن يكون إلى مجتمع مستقر في مدن (قرى) ولا يمكن أن يرسلوا إلى البدو الرحل أو المجتمعات المتنقلة بحثاً عن الماء والطعام، وهو ما صرح به القرآن في عدة موارد، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ}إبراهيم4. }وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى{ يوسف 109.
وأول حادث اختلاف نعرفه هو اختلاف قابيل مع أخيه هابيل، ولا نعرف تحديداً أسباب الخلاف وإنما من المؤكد أنه اختلاف بين عاقلين لم يكن أمثالهما موجوداً فيما سبق، وعلى ذلك نستطيع أن نحدد فترة الأمة الواحدة أنها سابقة على عصر ابني آدم، وهذا يدلنا بوضوح على أن هناك بشراً معاصرين لآدم، وسوف نرى أنهم كانوا على مقربة من موطن آدم حيث سنعرف أنه قام بتزويج أبنائه من هذه الأقوام.
ومن المهم أن نلتفت الى أن ما قبل آدم كان هناك سفك دماء ولكنه لم يكن بين البشر المكلف الواعي بل بين الضُّلاَّل (غير الواعين)، لهذا نرى تأكيد أهمية جريمة قابيل في القرآن {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }المائدة32. بينما نرى أن القرآن لا يعطي أهمية كبيرة لسفك الدماء قبل آدم.
ولو عدنا الى الرواية أعلاه وأن البشر كانوا لا مؤمنين ولا مشركين، أي في فترة ما قبل الإختلاف، من المؤكد أنها فترة ما قبل آدم، لأننا نجد أن ابني آدم (قدما قربانا) أي أنهما عرفا الإله والعبادة ومن أهم مراسيم العبادة قديماً هو تقديم القرابين، فمن المؤكد أنهما كانا مؤمنين بإله مهما كان هذا الإيمان ساذجاً، لأننا لا نتوقع أو نطالب أن يكونا مع جيلهما على مستوى من الفهم التجريدي الذي نعرفه اليوم، بالتالي فهما كانا في فترة الاختلاف وليسا في فترة (لا مؤمنين ولا مشركين).
كما نلاحظ أن الاختلاف حصل قبل أن يبعث الله النبيين ليحكموا ويحلوا هذه الخلافات، وهذا ربما يستفاد مباشرة من اعتراض الملائكة (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وحاصل الأمرين أن البشرية كانت متفقة لأنها لم تكن واعية ولم يكن هناك ما تختلف فيه، ولكنها عندما بدأت تختلف وهو دلالة على وجود الوعي البدائي أرسل الله الانسان الواعي الاول (آدم)، ومع ذلك نقول أن عدة مستويات من البشرية قد كانت موجودة عبر الدهور ولكنها انقرضت بعد أن تعرضت للابادة إما للاقتتال فيما بينها أو لعدم صلاحيتها لاعمار الارض والبقاء كاتخاذ سبل البقاء، وبعد أن وصلت البشرية الى مرحلة الوعي البسيط كان لها (آدم)، وهذا أيضا يحل لنا اشكاليتين، الاولى : أن آدم هو استمرار للبشرية البدائية ولكنه كان أول متعقل ولو بمستوى بسيط، والثانية : تحل مشكلة زوجة آدم وبنيه وحسب الروايات فإن تلكم النساء كانت موجودة وهو ما خلصنا اليه من وجود بشر من غير ولد آدم ولكنهم يشتركون معه في الخلقة، مع احتفاظه بالوعي الاول، وهذا لم يكن من خاصياته لوحده بل شمل ولده، فهاهو قابيل صاحب أول جريمة في المجتمع الواعي الصغير، عرف كيف يدفن أخاه بعدما رأى الغراب يدفن صاحبه، وهي إشارة مهمة الى الانتباه البشري الأول الذي نتج عن الوعي، ومن هنا نفهم أن ما قبل آدم كانوا لا يدفنون موتاهم وربما كانوا يأكلونهم أو يتركونهم لوحوش الارض أو يحرقونهم في أحسن الاحوال. كما نحتمل أن الإفساد الذي وقع من قبل هو من نفس الجنس الذي انحدر منه آدم فكان ذلك مثار اعتراض واستغراب الملائكة : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30، وهم كانوا يعلمون أن هذا الخليفة المزمع إنما هو بشر : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }الحجر28، و : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ }ص71، فاستغراب الملائكة إنما مبرر بشكل وآخر فهذا الذي يسفك الدماء أنَّى له أن يكون خليفة لله في الأرض أي يقوم بمهمة الخلافة التي تتطلب العدل والإعمار، بينما هم يرون أن جنسه أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء. وهذا ما سنأتي على تفصيله لاحقاً.
وسنعرف لاحقاً أن هذا الوعي عبر عنه القرآن بنفخ الروح، وهذه الروح كما سنرى لا تعنى بث الحياة في الجسد كما هو الفهم السائد، وإنما هي قوة أو طاقة أو قدرة لها عدة نواحي ومستويات، وتأتي بعد أن يصبح الإنسان على مستوى معين من التكامل العقلي والأخلاقي، وسنأتي عليها في حينه.
يحدثنا الشهيد الصدر الثاني وهو أحد عمالقة الفكر الإسلامي (اغتيل على يد نظام صدام سنة 1999 في النجف الأشرف)، عن رأيه في هذه الآية وهذا المجتمع البدائي وانتقاله الى عصر الخلاف :
((تدل بعض آيات القرآن الكريم على أن الناس كانوا أمة واحدة، وإنما حصل الاختلاف والتناحر بينهم في عصر متأخر، وقد اقترن هذا الاختلاف بإرسال الأنبياء وبعث الرسل.
منها: قوله تعالى:
"كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ..." الآية".
ومنها: قوله تعالى:
"وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا..." الآية".
وقد فهم منها سيدنا الاستاذ السيد الصدر (أي الشهيد الصدر الأول محمد باقر):
"بأن المجتمع البشري مر بمرحلة فطرة وغريزة، قبل أن يصل إلى المرحلة التي يسود فيها العقل والتأمل".
وهذا الفهم يعني اننا نستفيد من هاتين الآيتين الكريمتين هذا المفهوم: وهو ان المجتمع البشري كان في أول وجوده لا يزيد في مميزاته وصفاته عن مجتمع الحيوان، ثم بدأ - طبقا لتخطيط التكامل - يتفتح على الفهم والتفكـير. وكان خلال عصره الفطري فاقدا للاختلاف في المصالح والاختلاف في العقيدة. اما عدم الاختلاف في العقيدة والتشريع فلعدم وجود المستوى الذهني الكافي لفهم ذلك، أو إذا كان عندهم عقيدة بسيطة، فليس لهم المستوى الكافي لفلسفتها ومناقشتها، فهم جميعا يتسالمون على صحتها.
وأما عدم الاختلاف في المصالح، ذاك الاختلاف المؤدي إلى النزاعات والحروب، فلعدم وجود المستوى الذهني الكافي للتركيز على هذه الجهات. وهذا لا ينافي وجود نزاعات بسيطة بين الأفراد، كما توجد بين الحيوان.
وبمجرد ان وجد المستوى الكافي للتفكير، وجد النزاع بينهم بطبيعة الحال. وهذا هو المستفاد من قوله عزّ وجلّ: [فاختلفوا...] أي ان الاختلاف وجد بعد انتهاء عصر القصور الذهني.
وحـين وجد النزاع والاختلاف في البشر، كان مقتضى التخطيط العام لتكاملهم، ان يعرفوا التشريع الكافي لحل هذه المنازعات والعقيدة الكافية لزرع الأخوة فيما بينهم. وبذلك بعثت الأنبياء وأرسلت الرسل.
وهذا الفهم هو أقرب المعاني المحتملة إلى هاتين الايتين، بلا شك، وأقربها إلى التصورات الاعتيادية عن الحياة والمجتمع البشري. ومن الواضح ان بعض القرآن يكون قرينة على فهم البعض الآخر، وأمر يؤمن به كل مؤمن بالقرآن الكريم)). الصدر، اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني 507 ــ 508، دار الكتاب العربي، بيروت ــ لبنان. الطبعة الأولى دار التعارف بيروت ــ 1976.
وينبغي أن نشير أخيراً الى تفسير الأئمة السابق أن الناس في فترة عدم الاختلاف (كانوا لا مؤمنين ولا مشركين)، أي أنهم غير مكلفين بالتالي غير مستحقين لعقاب ولم يكونوا يتصفون بالصفات الإنسانية التي منها قواعد السلوك التي ينظمها القانون الذي يمكن أن نقول أن أبسط أشكاله هو القواعد العرفية للسلوك، ولكنه استيقظ بعد ذلك في أول مراحل الوعي، وهو ما عبر عنه الصدر الثاني بقوله :
((إن المشكلة التي مرّ بها آدم D التي نسمعها في التوراة والقرآن، هل أثرت فيه شخصيا فقط أو فيه وفي أولاده جميعاً. هذا الأثر الذي يمكن أن نفهمه من قوله تعالى : }... فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ...{ طه 121، وأنظر الأعراف 22.
وهو وجود الوعي والقدرة على التفكير عندهما بعد أن لم يكن. "حيث نفهم من هذه الآية الكريمة أنهما التفتا إلى قواعد السلوك ــ في الجملة ــ بما فيها لزوم التستر عن الناظرين وأنه لا ينبغي على حالة العري الكامل. وعرفا كيفية سد هذه الحاجة، وهو وضع أوراق الشجر على الجسم. وهذا أول الوعي البشري. وتدل التوراة على ذلك بوضوح وأنهما التفتا إلى الخير والشر [تكوين: 3/22])). الصدر، المصدر السابق 509.
سنكمل معكم في الحلقة التالية.
عباس الزيدي 25 / 9 / 2013 النجف الأشرف