ثم قالت شهرزاد لشهريارـ بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد ، إن رجلا اسمه (غايب) كان في السبعينيات من أكثر الناس تعلّقا بالحزب والثورة. وكان يحبّ لبس قاط الزيتوني حبّا ملك عليه فؤاده وجعله يتبختر به بين الناس أربعة وعشرين ساعة ، لدرجة إن أمّه زايرة خضيره ضاقت به ذرعا وحاربته نفسيا. وفي ذات يوم طلعت روحها وقالت له ـ شمالك جنك ما شايف زيتوني ، شبيك تفتر علينه بيه ، ضيجت خلكنه يبو زيتوني؟
فضحك كل من في البيت وباتوا يلقبونه (أبو زيتوني) ، راح (أبو زيتوني) ..رجع (أبو زيتوني).
فضحك شهريار وقال ـ نلعه عله والديج شهرزاد ، شلون عندك سوالف غمّه. فكركرت شهرزاد وقالت ـ أنعم الله عليك ، هاي فوكاهه. ثم أكملت وقالت ـ كان (غايب) يا مولاي يكره الأفكار المعارضة لأفكاره ويطارد الشيوعيين والاسلاميين والليبراليين ويقول لمن يناقشه في الموضوع إن " الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ولكنه يضيج الخلك بالنسبة لي".
وكان (غايب) يا مولاي يحبّ المزاج الثوري لدرجة إنه سمّى ابنه الوحيد (نضال) وابنته الوحيدة (كفاح). ثم مرّت الأيام واندلعت حرب إيران وسحبت مواليد (أبو زيتوني) وذهب في درب الصد ما رد تاركا بدلاته السفاري في الكنتور أمانة للتاريخ. وبعد أن ابتعد تابوته على الكوستر، سمع القوم (نضال) وهو يقول له ـ روح بويه ..أنته وأعمالك. فقال صديق قريب ـ جا شلون ما تسويله ثواب، ما تصلي له ، يمهلوك!
وهنا بكى شهريار وقال ـ نعله عله والديك يا (نضال) ، هي هاي حجايه تنحجي ..شني أنته وأعمالك؟
فقالت شهرزاد ـ ثم مرّت الأيام يا مولاي وكبر (نضال) وصار شابا ذكيا وحلو المبسم ، وكان من معارضي الدكتاتورية ، عكس والده المغفور له، وبعد أن ضاقت به السبل هرب من العراق ووصل إلى أوربا وتغيّر جوهريا بعد أن تعرّف إلى أفكار الحداثة وبات يكتب الشعر والمسرح والنقد ما بعد البنيوي. وكان كلما تذكّر أباه (غايب) استرجع وقال ـ حرامات راح محسّر وما صار عضو فرقة.
وبعد أن قررَ الأميركان تغيير الوضع في العراق طرب (نضال) للأخبار وصار يترقّبُ ما تؤول إليهِ الحال كي يرجع لبلده ويحاول نشر الليبرالية وقيم التسامح التي كان أبوه لا يعترف بها. وما هي إلّا كريثما يركب الفرس حتّى أسقطوا صدام فعاد الابن المهاجر متحمّسا وهو يهمس لنفسه ـ جا خوش ، لقد حان دورنا نحن الليبراليين في تغيير الأوضاع .
ثم اندرج في المشهد وعُيّن في مؤسسة ثقافية كبيرة وكان يذهب بين فترة وأخرى لمغتربه الأوربي لتنسّمِ ريح الشمال ثم يعود مليئا بالحماس للعراق.
ثم إن شهريار قالَ بتبرّمُ ـ وتالي ..فضيهه شصار؟
فقالت شهرزاد ـ تجيك السالفة. رجع (نضال) لبيتهم القديم فوجد أخته (كفاح) وقد صارت ملّاية ، ولكنها لا تزال تقفل على الكنتور وتحتفظ بقوط الزيتوني الخاصة بأبيهما.
وفي ذات يوم استيقظ (نضال) من النوم وهو يبكي ويمسح دموعه فسألوه عن السبب فقال ـ البارحة تحلمت بأبويه جنه مصلخ ويرجف ، سألته ـ شبيك يابه ؟ كللي ـ بويه هالتشوفني، مصلّخ وارجف والزيتوني مالتي بالكنتور، لا انتم منطيه ثواب بروحي ولا انته لابسه علمود ارتاح بقبري .
وبمجرد ما قال ذلك صاحت الجدة ـ سوده بوجهي يبو زيتوني. ثم قامت مثل المجنونة وفتحت الكنتور وأخرجت البدلات وسلّمتها لـ(نضال) وقالت ـ البسهن بعد حبوبتك وخل ابوك يرتاح . فلبس (نضال) الزيتوني فورا وهو يقول ـ سمعا وطاعة .
ومن ذلك اليوم يا مولاي ، تبدل حال (نضال) إذ حلّت روح أبيه في جسده وصار يطارد المخالفين له في الرأي أكثر مما كان يفعله الأب . ثم جنّد نفسه لينظّر فكريا لـ(الاجتثاث) في كلّ المجالات ، في الفن والأدب والنقد.
لقد تحوّل إلى مسخ من الكراهية لكل من يخالفه ويعترض عليه ولكن بخطاب جديد مبهر ولمّاع . صار نسخة أسوأ من أبيه. وهو اليوم يا مولاي ناشطٌ جدا في كلِّ مكان , عندما يسأل عن اسمه يرتبك ويقول ـ أنا نضال ابن أبو زيتوني . وإذا ما اعترض أحدهم على نظرية الاجتثاث التي يعمل عليها يقول بنفس طريقة (غايب) رحمه الله ـ الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ولكنه يضيج الخلك بالنسبة لي .
ثم صاح الديك معلنا طلوع الصباح فسكتت شهرزاد عن الكلام المباح .