فجأة، وبدون مقدّمات ،توقّفت الهواتف عن الرنين في مسقط نهار الاثنين الماضي من الواحدة ظهرا ، تقريبًا ،واستمر صمتها حتى الثامنة والنصف مساء بسبب عطل فنّي طارىء ، كما أوضحت شركة الاتصالات العمانية (عمانتل) في بيان لها حول خلفياته، والأسباب التي أدت إلى وقوعه، ولستُ هنا بصدد الحديث عن تلك الخلفيّات، ولا البحث في أسباب انقطاع شبكة الاتصالات، لكن الذي أثارني سؤال كان يشغلني قبل حدوث العطل: هل نستطيع أن نستغني عن الهاتف، ولو لساعات قليلة ،بعد دخولنا عصر الهواتف الذكية، والخدمات التي تقدّمها، ودورها الإيجابي في تعزيز العلاقات والتواصل الاجتماعي ؟
وهو سؤال يصيب أيّا منّا بالدوار!
لذا ففي الدقائق الأولى، من تعطل الاتصالات ، شعرنا بضيق شديد، وكأنّ طوفانا يزحف ليغرقنا، ويقطعنا عن العالم، ويحكم علينا بالعزلة، وشيئا فشيئا، صرنا نسبح في الفراغ، سائرين نحو المجهول، فمرّت الدقائق ثقيلة، بثقل الأجهزة التي أصبحت ليست سوى قطع ديكور جامدة، وكائنات ميتة انقطع تنفّسها، فغدت بلا حياة، قبل حدوث العطل كان من الصعب علينا أن نتخيّل أنفسنا خارج تغطية الشبكة، بعد أن جنينا ثمار هذا الاختراع المدهش بحيث صرنا لا نتصوّر حياتنا بلا رنين هاتف، ولا زقزقة الواتس أب، ولا هزّة بريد إلكتروني توقظ هواتفنا من سباتها، صرنا على مسافة زمنيّة من تغريدات الأصدقاء على مواقع التواصل الإجتماعي (تويتر وفيس بوك وانستجرام وغيرها!! )
وإذا كان النفي، عقوبة قانونية، لمن يقترف خطيئة في الحقب السالفة، فإنّ الحرمان من الهاتف عقوبة لا تقلّ عنها قسوة، وهي بالنسبة للكثيرين أشبه بالعودة القرون الــــ" الوسطى" !! إذ أنّ الهاتف أصبح، في عصرنا ،جزءا لا يتجزّأ من حياتنا، وعضوا مهمّا يدخل في تفاصيلها، يقرّب المسافات، ويأتي بالبعيد، وعلى رقبته نعلّق كلّ مواعيدنا، فهو العصا التي نتوكأ عليها، في حلّنا وترحالنا، وتسيير أعمالنا،ولنا فيه مآرب أخرى؛ وهو دليلنا، حين يعزّ الدليل، و"خير جليس"، وصاحب وأنيس، أحد الأصدقاء قال لي إنّه ،في مرّات عديدة ، ينهض من نومه يتفقّد هاتفه، ويرى التنبيهات التي وصلت إليه، ثم يواصل نومه، وهذه الحالة تمّ تشخيصها (مرضيا)، ضمن قائمة العوارض النفسية المستجدة في القرن الحادي والعشرين، ويسمونها "الإدمان على الهاتف"، وصار من يتفقّد هاتفه مرّة كل ثلاث دقائق مدمنا في اصطلاحات الطب النفسي!!
والذي يصل إلى هذه المرحلة ،فإنّه يحتاج إلى علاج ، فالإدمان على الهاتف مرض لا يقل خطورة عن أيّ إدمان، وله مضار اجتماعيّة، فكثيرا ما رأيت عددا من الأشخاص جالسين في مقهى، وكلّ منهم مشغول بهاتفه، وأحيانا أتحدّث مع أحد الأشخاص بينما هو يعبث بهاتفه ، وقد فوجئت ، قبل أسابيع بعدد من الشباب يجلسون في ركن من مسجد ، وكلّ واحد منهم مشغول بهاتفه، بينما كان المصلّون يؤدّون صلاة الجماعة !!
وصار الهاتف مصدرا للإشاعات ، وقد أكد بعض المسؤولين العسكريين العراقيين إنّ وجود الهواتف مع الجنود والضبّاط كان من أحد أسباب سقوط الموصل في أيدي تنظيم الدولة اللا إسلامية (داعش) ، فساهمت الإشاعات التي انتشرت في الهواتف، في إضعاف الروح المعنويّة للجنود، فتركوا مواقعهم للإرهابيين.
إنّ العلاج من الإدمان على الهواتف يقوم على الإقلال من استخدامه بشكل تدريجي، وهذا يحتاج إلى إرادة قويّة، لا تقلّ عن الإرادة المطلوبة للإقلاع عن التدخين أو أيّة عادة أخرى ذميمة، ولعلّ توقّف الاتصالات الإضطراري منحنا فرصة لمعرفة درجة انغماسنا في عشق "الهاتف"، ورغم أن الساعات التي مرّت كانت ثقيلة، ولكننا ساعة بعد أخرى وجدنا لدينا فائضا من الوقت، كان مهدورا بكلام لا طائل منه ، وكتابة الرسائل القصيرة، والطويلة أحيانا، في أمور شتّى، ولكي نملأ فجوات الوقت، بحثنا في مدرّجاتنا عن ملاحظات غافية في طيّات النسيان، ومجلّات لم تقع أنظارنا عليها ،رغم صدورها منذ شهور، وكتب لم نقرأها، ورسائل ورقيّة لم نفتح مظاريفها، وشيئا، فشيئا بدأنا نتأقلم مع الوضع الجديد، تخفّفنا من هواتفنا، ووضعناها في جيوبنا الخلفيّة بعد أن كنّا نقبض عليها بأصابعنا، وبدأنا نتأقلم مع الوضع الجديد بما يمليه علينا، فكان تمرينا ناجحا على الإقلاع عن الهاتف.
مقالات اخرى للكاتب