إن مغادرة العراق من قبل ذوي الكفاءات والقدرات الخاصة ما زالت تجري على قدم وساق حتى الآن، وإن مثل هذا النزيف المخيف والمدمر إقتصادياً وثقافياً واجتماعياً سيستمر طالما انعدم الأمن وانتشرت الجريمة واستمر العنف والإرهاب وبقي علماء العراق دون حماية من حكومة أو مظلة واقية من سلطة، تهوى نجوم منهم بين الحين والآخر نتيجة طلقة جبانة من كاتم صوت أو اختطاف من جهة مجهولة تنتهي بقتل الضحية. وعادة ما يتبع هذه الجرائم النكراء إستنكار في جريدة هنا أوحشد تأبيني هناك ثم ينسى الحدث الجلل ويبقى القتلة المجرمون يصولون ويجولون في مدن العراق المنكوبة دون رادع يردعهم، وكأن العراق قد خلا من الشرطة ورجال الأمن.
وحتى أولئك العلماء المغتربين الذين يعودون الى العراق بين الفينة والأخرى بعد سقوط الدكتاتورية، مدفوعين بحبهم الشديد للوطن والتفاني لخدمته، لم يشاهدوا من المسؤولين صدوراً رحبة أو آذاناً صاغية، بل واجهوا شتى العراقيل توضع أمامهم لمنعهم من الألتحاق بخدمة الوطن، وكأن المسؤولين الحاليين الذين تسنموا مقاليد السلطة الحكومية على اختلاف طبقاتها ومستوياتها لا يحسنون للتفاهم مع العلماء العائدين لخدمة الوطن إلا لغة الأنانية والأقصاء.
وشاهدٌ على ما يحدث لهؤلاء كاتب هذه السطور حينما حظر بغداد في أواخر سنة 2008 ضمن مجموعة كبيرة من ذوي الكفاءات والأختصاصات النادرة توجهت الى العراق من مختلف أقطار العالم تلبية لدعوة خاصة من مجلس النواب. وفي صبيحة افتتاح ذلك الحشد الكبير في فندق الرشيد بالمنطقة الخضراء حظر عُليةُ القوم من مسؤولي الدولة يتقدمهم رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب وممثلٌ عن رئيس الجمهورية. ثم توالت، بعد ذلك، الخطابات والقصائد الطنانة الرنانة، كلٌ يضع ذوي الكفاءات على الرأس وداخل القلب وفي حدقة العينين. وكلٌ يطلب – بل يتوسل – من ذوي الكفاءات الرجوع الى الوطن الحبيب من أجل البناء وإعادة الأعمار والمشاركة بشرف نهضة العراق بشتى الجوانب بما فيها العمرانية والعلمية والفكرية والأقتصادية..إلخ..إلخ..إلخ. ولكن ما أن انقضى وقت الأفتتاح وأُطفئت الأنوار المسلطة على المسرح وتوارت كاميرات التلفزيونات الفضائية توارى معها المسؤولون على اختلاف مراكزهم وألوانهم، وكأن هؤلاء قد أنجزوا مسؤولياتهم تجاه الوطن وأفلحوا بإداء واجباتهم أيما فلاح بمجرد الوقوف على المسرح والمزايدة مع الآخرين بإلقاء الكلام الفارغ والتطبيل أمام كاميرات التلفزيون بوعود دونكيشوتية سرعان ما تلاشت مع تلاشي هؤلاء في دوائرهم الوثيرة وبيوتهم الفارهة.
ولم يتحقق بعد ذلك أي شيئ يستحق الذكر بخصوص ما أطنبه المسؤولون من عشق خاص لذوي الكفاءات وضرورة تذليل المصاعب لتسهيل عودتهم من أجل المشاركة الحقيقية والمثمرة في عمليات بناء الوطن الغالي والحبيب. ولكن، بمرور الأيام والحوادث، تبيّن لِمن دُعي من ذوي الكفاءات بأن ما شاهده إنما كانت مسرحية رخيصة فجّة، بل خلاصتها كانت كذبٌ في كذب! لقد كان الأمر كله جعجعة بلا طحين. أوليست الحال مع هؤلاء كانت دوماً وما زالت منذ سقوط النظام السابق ولغاية الوقت الحاضر - جعجعة بلا طحين؟ نَعَم ... واللصوص منهم ومن أتباعهم وحلفائهم لاهُون فيما وراء الستار بسرقة أموال الشعب وتخريب الوطن.
_______________________________________________
*مستل من كتاب تحت الطبع بعنوان "نهضة أوربا وسبات العرب: الأنسان هو الثروة" للكاتب أعلاه.
مقالات اخرى للكاتب