منذ أن تسلط البعثيون في كل من سوريا والعراق مطلع ستينيات القرن الماضي بعمليات انقلابية، وهم يرفعون شعارات تخديرية لشعوب تعاني من أمية أبجدية وحضارية هائلة، وتغط في نظام قبلي بدائي تتحكم فيه عادات وتقاليد لا علاقة لها بالزمن، وفقر مدقع يتجاوز نصف السكان بكثير، وأفكار دينية ومذهبية ضبابية لا تفقه من الدين إلا مظاهره دونما الغوص في جوهره وفلسفته، في هكذا بيئة زرع البعثيون الأوائل بذور الفاشية الأولى في العراق وبلاد الشام وسوريا حصريا، وابتدئوا حكمهم منذ الساعات الأولى بأنهار من الدماء وآلاف القتلى والمغيبين والمعتقلين، حتى غدت هذه البلاد معسكرات تشبه إلى حد كبير معسكرات النازية في المانيا، كيف لا وقد تشربت أفكار البعث الأولى بما طرحه النازيون الألمان، وأسسوا عليه نظامهم الفكري والعقائدي، مغلفا بعلمانية كاذبة تهرأت ملابسها بالحملة الإيمانية المشبوهة التي قادها صدام حسين، لنشر بذور داعش اليوم وفتح قنوات مع المتطرفين الدينيين وفي مقدمتهم القاعدة.
لقد كانت هناك فرصة لتأسيس جيوش على مبدأ المواطنة في كل من العراق وسوريا، خاصة وأنهما يضمان مكونات قومية ومذهبية وعرقية عديدة، لا تقبل فرض مذهب أو دين أو قومية كما حاول البعثيون ذلك، وقادوا البلدين إلى ما نراه اليوم، تلك الفرصة التي سنحت مع تأسيس هذه البلدان اثر هزيمة العثمانيين وتوزيع ارثهم على الحلفاء، لبناء جيش على أسس المواطنة، إلا إن الانقلابات الفاشية أنهت تلك المحاولات والفرص، وبتسلط البعث على البلدين، بدأت مرحلة ادلجة النظام السياسي والاجتماعي فيهما، مع وضع أسس لعسكرة المجتمع من الابتدائيات وحتى الجامعات، في ميليشيات عقائدية وتحت تسميات الطلائع والفتوة والشبيبة، ومن ثم الجيش الشعبي وقبله الحرس القومي، حيث تعتبر مدارس تمهيدية لإعداد كوادر أمنية ومخابراتية وعسكرية مؤدلجة، ومن أكثر المنظمات الإرهابية توحشا تلك التي أطلق عليها أسم فدائيو صدام، ومنظمات سرية مثل منظمة سيف والأمن الخاص وأشباههما في سوريا أيضا، حيث كانت تتدرب على عمليات قامت بها القاعدة وأبدعت في تطويرها اليوم داعش، وخاصة ما يتعلق بالتوحش الذي ورد في كتابها الذي صدر منذ فترة، والذي يصف عمليات القتل الوحشي المنظمة والمبرمجة والمصورة سينمائيا، وقبل ذلك عثر المواطنون على عشرات الأفلام الوثائقية التي كانت تصور تلك الممارسات الوحشية في مقرات البعث ودهاليز الأمن والمخابرات والاستخبارات العسكرية والسجون والقلاع السرية التي ضمت الآلاف من ضحايا البعث في كل من العراق وسوريا.
وحينما أسقطت الولايات المتحدة وحلفائها الهيكل الإداري لنظام صدام حسين، شعر نظام الأسد في سوريا بالخطر، خاصة وان النظام البعثي في بغداد حول إليه كل ممتلكاته الخطيرة والقذرة من الأسلحة الكيماوية والجرثومية قبل إسقاطه، وبذلك تحولت سوريا إلى معسكرات للإرهابيين من شتى أصقاع العالم، وسهلت دخولهم إلى العراق بحجة مقاومة الأمريكان تحت مسميات عديدة، وخلال سنوات قلائل استعاد البعث قوته مع فشل إدارة المالكي وطبقته السياسية في إدارة البلاد سياسيا واقتصاديا وعسكريا، واستطاع بتنسيق دقيق مع منظمات الإرهاب الدينية أن يشكل جبهة ضمت خيرة جنرالات الحرس الجمهوري ورجال الأمن والمخابرات والاستخبارات العراقية التي أسسها البعث ورباها منذ مطلع الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وحان موعد حصادها لتحيل العراق إلى حفنة تراب كما وعد صدام حسين في حالة إسقاطه، وقد شهدنا الدمار الشامل في سنجار والرمادي وزمار وتكريت وبيجي وعشرات البلدات والقرى التي أحالها إلى حفنة من تراب.
بعد كل هذه الحقبة المليئة بالدماء والدمار لم تنجح الطبقة السياسية العراقية في إنتاج مؤسسة عسكرية تقوم على قواعد المواطنة والمهنية بعيدا عن القومية والدين والمذهب، وتلك ورب الكعبة أهداف لا تقل خيالية عن أفلام الخيال العلمي، إلا الهم إذا نجحت في استثمار انتصارات الرمادي والتقدم خطوة باتجاه بلورة قوة عراقية مهنية خارج الانتماء المذهبي والعرقي.
مقالات اخرى للكاتب