حين بدا نصر الحلفاء وشيكا وقرب وضع الحرب العالمية الثانية لأوزارها ظهرت فكرة "الحرب الدائمة" في الوعي الأميركي والإدارة الأميركية وتبناها مجموعة من رجال المال والأعمال, أبرزهم (تشارلز ويلسون) رئيس شركة (جنرال موتورز) الذي أدار جهود الحرب الهائلة وساهم في وضع أولويات الاقتصاد الأميركي خلال الصراع بصفته مدير مجلس الإنتاج الحربي, ولتجنب الركود الاقتصادي الكبير كالذي حدث في عام (1929) طرح (ويلسون) فكرة تأسيس (اقتصاد الحرب الدائمة) وشارك في تنفيذ إصلاحات (النظرة الجديدة) في البنتاغون خلال تسمه منصب وزير الدفاع, وساهمت أفكاره في زيادة الإنفاق العسكري في عهد الرئيس (إيزنهاور)وانطلق في مهمة تحديث المؤسسة الدفاعية للولايات المتحدة التي شكلت بداية الحرب الباردة مع روسيا وبداية سباق التسلح, وبعد عملية إطلاق الروس للقمر الصناعي (سبوتنك) الذي شكل عهدا جديدا من الحرب الباردة, تولى (نيل ماك ايلروي) الرئيس السابق لشركة (بروكتر أند غامبل) العملاقة المؤسسة الدفاعية, حتى بدأت العلاقة الوثيقة بين وزارة الدفاع ومجتمع الأعمال ينمو ويتوسع فتضاعف الإنفاق العسكري ومعه تضاعفت أرباح الشركات الكبرى والمقاولين.
وما أن هدأت الحرب الباردة وانصرفت الفترة الآنية من شبه السعادة المفرطة من(النظام العالمي الجديد) حتى عاد منطق (الحرب الدائمة) للبروز مجددا في (11 أيلول عام 2001), ووسط فورة من ردود الأفعال القومية المفرطة, شرعت الولايات المتحدة بالحرب على الإرهاب, وهي أول حملة عسكرية في التاريخ تشن انطلاقا من شعور, إذ اخذ القرار بشن هذه الحرب الجديدة وسط بيئة مفعمة بالحقد والانتقام, وتالية لصدمة كبيرة ومفتقرا للجدال المنطقي, فبلغ مستوى الإنفاق في مجال الدفاع مستويات هائلة, ووسط عهد جديد من وزراء الدفاع من ممثلي الشركات العملاقة أو رؤساءها, أخذت الروابط التجارية بالازدياد, من (ديك تشيني) الرئيس التنفيذي لشركة (هاليبورتن) إلى (دونالد رامسفيلد) الرئيس التنفيذي لمؤسسة (جنرال انسترومنت) تثير الشكوك بشان الدوافع والعلاقة بين جميع هؤلاء الأشخاص والسياسات العسكرية الأميركية, حيث يتضح ذلك جليا من الدوافع الكامنة للغزو الأميركي للعراق حيث إن مهندسي الحرب لم يكونوا العصبة الفائقة المؤهلات, ومع هذا فان ردة الفعل الغريزي والسريع على أحداث (11 أيلول) أفضى إلى إعادة إحياء الاتفاق الدفاعي في الولايات المتحدة وحكم جديد لنخب الصناعة العسكرية التي عانت الركود والإفلاس, وهي عملية إحياء بدت غير واردة في بداية التسعينات حينما كانت الميزانيات الدفاعية في حالة تقليص مستمر, وبدا من الصعب إيجاد أعداء حقيقيين, وبما أنهم أخفقوا جدا في إدارة حربهم الخاصة, يتساءل المرء: كيف برع هؤلاء في حث البلاد على الشروع في الفصل الباهظ الأخير في عهد الحرب الدائمة؟ والإجابة هي في إن إحداث (11 أيلول) كان التهديد الذي وجهه الإرهابيون كبيرا جدا لدرجة انه استدعى كل هذا القدر من الإنفاق, وان الجهات المستفيدة شنت حملة عسكرية فاعلة لتنفيذ مصالحها بطريقة منسقة.
تقوض الوقائع صحة الجدالات التي قدمتها إدارة (بوش) وغيرها عن الإنذارات المهولة من خبراء الإرهاب الذين تعتمد أهميتهم على الإلحاح في التهديد إلى الجماعة المتطرفة الغربية من رهابيي الإسلام المتطرفين والعنصريين الذين يسيطرون على إعلام الجناح اليميني المتطرف, والخطاب نفسه المستخدم لوصف التهديدات غالبا ما يبتعد عن سياق المنطق, حيث تشير الأرقام إلى إن التهديد الإرهابي هو بالفعل اقل مما جعل عليه وفقا لتقارير وزارة الخارجية, فقد حصل حوالي (14) ألف هجوم إرهابي في العالم عام (2006) وهو أعلى معدل وصلت إليه العمليات الإرهابية,وأكثر من (11) ألف عام ( 2005) وارتفع عدد القتلى في هذه الهجمات إلى (20) مدني بعد أن كان (4600) في السنة التي قبلها, ومع إن هذه الأرقام مبالغ بها جدا إلا إنها تضاعفت لدى مقارنتها بمجموعة من المخاطر الأخرى, التي يمكن اعتبارها من ناحية الإحصاءات وحدها, تهديدات أكثر إلحاحا , فكل (12) ساعة يموت عدد من الأطفال حول العالم جراء أسباب قابلة للمنع مساو تقريبا لعدد الأشخاص الذين يموتون بسبب أعمال إرهابية على مدى سنة بأكملها … ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة يساوي عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب مرض نقص المناعة المكتسبة كل ثلاثة أيام عدد الذين يموتون بسبب الأعمال الإرهابية على مدى سنة كاملة. وقد تبدو الأرقام المتعلقة بالإرهاب اصغر مما قد تبدو عليه, فمن بين (20) ألف شخص تقول الخارجية الأميركية إنهم قتلوا بسبب الأعمال الإرهابية عام (2006) قتل الثلثان منهم في العراق بمعنى آخر قتل حوالي (14) ألف مدني في هجمات إرهابية نتيجة لوضع تسببت به الولايات المتحدة باحتلالها العراق وما كانت هذه الخسائر لتحدث لولا حصول هذا الاحتلال, وهذا يترك لنا رقما عالميا للوفيات الناجمة عن الإرهاب الغير متعلقة بالعراق يصل إلى حوالي (6) آلاف منهم (56) شخص فقط هم من الأميركيين! … حتى في أسوا سنة واجهت فيها الولايات المتحدة للإرهاب سنة (2001) عندما وصل عدد القتلى إلى (2974) فان حوالي خمسة عشر ضعفا من هذا العدد من الأميركيين قتلوا جراء حوادث السيارات, وقتل ستة أضعاف هذا العدد جراء جرائم القتل الجنائية, ومات أكثر من هذا العدد جراء التعرض للحريق او للغرق, ومع هذا فان هذه التهديدات والتي تطال حياة الأميركيين لم تشكل ولو جزءا يسيرا من ردة الفعل الذي وجه ضد الإرهاب, وهذه الأرقام هي بالكاد توفر أساسا منطقيا للشروع في إعادة البناء الجذري للنظام الأمني على مدى السنوات الستين الماضية, وبالكاد يبرر مئات المليارات التي أنفقت في حربي العراق وأفغانستان, لتبلغ ميزانية وزارة الدفاع أكثر من (550) مليار دولار عام (2012) وهي تفوق موازنة عام (1985) وهو العام الذي شهد ذروة الإنفاق العسكري على الحرب الباردة إذ بان حكم الرئيس (ريغان) بعدة مرات. إذا كيف يبدو التهديد منطقيا ؟ وما هو العدو الذي برعت في صناعته الإدارة الأميركية ليثير الرعب والذعر في العالم بأسره, ومن يتخلف عن الولايات المتحدة في حربه فهو ضدها ؟ بالتأكيد انه تنظيم القاعدة الإرهابي, الذي هول له وتحول إلى بعبع أرعب العالم بأسره وهو في أفضل حالاته في أحداث (11 أيلول) يتكون من عدد غير محدد من الأشخاص, وتبلغ ميزانيته حوالي(30) مليون دولار في السنة, وهذا تقريبا مساو لقيمة طوافة شحن عسكرية واحدة نوع (شينوك) وتوازي ما كانت تنفقه القوات الأميركية في العراق خلال (4) ساعات فقط, وفيما يتم الحديث كثيرا عن القوة التي تتمتع بها هذه المنظمة النابع من عدم وجود هيكلا تنظيميا متماسكا ومكان محدد ونشاط معروف وهو ما يشكل صعوبة في تحديد القوة الحقيقية للقاعدة, ويسهل جدا على أولئك الذين يميلون الى التهويل والمبالغة بتقدير حجم هذه القوة, خاصة من قبل الإعلام والحكومات التي تبالغ في الرد وذلك لتحقيق أعظم النتائج, وهي نتائج نادرا ما تنجم عن أعمالها المباشرة, فأحداث (11 أيلول) أحدثت خسائر مادية تقدر ب(16) مليار دولار, ولكن الرد الأميركي على هذا الهجوم كلف ولغاية عام (2011) أكثر من (3700) مليار دولار, وحصدت حياة عشرات الآلاف من الجنود الاميركان, بالإضافة إلى مئات الآلاف من المدنيين في العراق وأفغانستان, ناهيك عن الضرر الذي أحدثه تآكل الحريات المدنية المحلية والضرر الهائل الذي لحق بسمعة الولايات المتحدة في المجتمع الدولي. وباختصار تنظيم القاعدة هو العدو الوهمي الذي سعت الولايات المتحدة إلى ابتداعه لتوجيه بوصلة الصراع من الشرق الى الجنوب المسلم, والفترة الممتدة ما بين انهيار (الاتحاد السوفييتي) وأحداث (11 أيلول) انهمكت فيها الإدارة الأميركية مع مزيج من المتآمرين في مجال الأعمال والسياسة والدفاع في نسج مؤامراتها داخل الدهاليز العفنة, تبلورت في فريق عمل يمتلك أفكارا أيدلوجية كتلك التي كانت تمتلكها إدارة (بوش الأب والابن) حيال المنطقة العربية,بل هو امتداد لها, وامتداد للمصالح المتداخلة مع الصناعة النفطية وشركات الدفاع التعاقدية الكبيرة وجميع اللاعبين النافذين, وعلى الرغم من السوء الذي ينتاب الإدارة الأميركية في تسويقها لإدارة ملف الإرهاب والحفاظ على التحالفات الدولية, إلا أنها تثبت مهارة فائقة وقدرة كبيرة على خداع الرأي العام الأميركي والعالمي.
إن تحديد الأهمية للجماعات الإرهابية والجهات الغير حكومية يعتبر أمرا مهما بالنسبة الى الولايات المتحدة وواضعي الخطط العسكرية الغربية, وفي الواقع يكمن اكبر تغيير في بنية طبقة النخبة الصناعية العسكرية في العقود الأخيرة في انتقال تركيزها من الصراعات المتناسقة كما في الحرب الباردة أي تلك الحروب التي تنشا بين دول متكافئة بين المعسكرين, إلى الصراعات اللامتناسقة, أي الوضع الذي تتمتع به الولايات المتحدة والغرب بنفوذ غير متكافئ البتة مقارنة مع الدول الأخرى أو المنظمات المسلحة الغير حكومية, في حين إن هذا الوضع قد يتغير بعد مرور بضع سنوات وستسعى الولايات المتحدة إلى تحويل أعداء اليوم إلى حلفاء إذا ما واصلت الصين عملية بناءها العسكري الهائلة أو في حال رغبة روسيا في إعادة أمجادها السابقة وأن تكون دولة محاربة وقد بدت بوادر هذا التحول من خلال الأزمة السورية, أو في حال تمكنت الولايات المتحدة أن تظهر للوجود تحالفا جديدا من الأعداء, بل إن هنالك تحالفات عدة تلوح في الأفق لتكون ندا قويا لكبح جماح الانفلات الأميركي الأحادي القطب, كمجموعة (البريكس) المتنامية.
خالد الخفاجي
رئيس الرابطة الوطنية للمحللين السياسيين
مقالات اخرى للكاتب