بسبب تكرار ظهور الأسماء المعروفة في الساحة السياسية منذ التغيير في 2003 ولحد الآن، أصبح البعض، يمتعض، ويغضب، ويعترض، ويتعجب من تخصيص وحصر المناصب الرفيعة بوجوه معينة من العراقيين دون غيرهم من خلق الله أجمعين، حيث تراهم يتنقلون من منصب إلى آخر، ومن مركز إلى مركز، سواء في الدرجات العليا، أو الوزارات، أو مجلس النواب ولجانه، أو الهيئات المستقلة، أو المستشاريات، وغيرها.
وأنا في الواقع لا استغرب ذلك أبدا، لأني أجده ليس جديدا علينا، فالقوم أبناء القوم، والسياسيون يرثون عادة من سلفهم الشيء الكثير، ونحن أمة تحب الموروث، ولذا كنا ولا زلنا وسنبقى عالقين في أجوائه لا نغادرها، ولا نفكر في ذلك أبدا، ومن المواريث التي نعتز بها؛ هو الموروث السياسي المبتذل، ففي كل عصر، كان للدولة رجالها المبرزون؛ الذين يتنقلون في المناصب فيها، سواء أحسنوا في أداء واجبهم أم قصروا وأساءوا، حتى بات ذلك من أخلاق الملوك، بل هو تاج عاداتهم وتقاليدهم عبر العصور.
وقد حدثنا أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ في الصفحة الرابعة والستين بعد المائة من كتابه القيم "التاج في أخلاق الملوك" الذي تولى تحقيقه الدكتور عمر الطباع، وتولت طباعته ونشره في بيروت شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم عن أنموذج من هذه الشخصيات اللولبية المحورية، هو سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي.
سعيد بن مسلم من عائلة مرموقة سياسيا، كان جده هو القائد الكبير الشجاع قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي ملأت أخبار انتصاراته كتب التاريخ، أما والده سلم بن قتيبة فكان واليا على البصرة ليزيد بن عمر بن هبيرة، في أيام مروان الحمار، في أواخر أيام دولة الأمويين، ثم وليها ثانية في أيام أبي جعفر المنصور، في أوائل عصر دولة العباسيين. بمعنى أنه خدم الدولتين الأموية والعباسية، ولا أدري كيف أقنعهم بجدارته ليتولى إدارة مدينة البصرة، هذه المدينة المليئة بالحراك والنشاط!
أما سعيد نفسه، فكان بمنزلة عظيمة من الخليفتين العباسيين موسى الهادي، وهارون الرشيد، وكان يركب مع الرشيد في موكبه المهيب في قبة واحدة، نظرا لقربه منه، ومحبة الرشيد له.
هذا الود الصافي، وهذه المحبة الغامرة؛ فضلا عن التاريخ العائلي السياسي العريق، اجتمعت سوية، فجعلت الخليفة هارون الرشيد، يستعمل سعيدا واليا على الموصل، ثم ما لبث أن استعمله واليا على الجزيرة، وبعدها بزمن استعمله واليا على أرمينية، بالرغم من أن سعيد لم يكن أهلا لهذه المناصب، ولم ينجح في إدارة شؤون الأقاليم التي تولى مسؤوليتها، إلا أنه كان ينقل من مكان إلى مكان، وكأن الأرض خلت من المقتدرين، تماما مثلما يحصل اليوم في العراق!
ومن مواطن وهن سعيد وتقصيره في واجبه، وعدم جدارته لإدارة الأقاليم التي تولاها، أنه حينما كان واليا على أرمينية، خرج الخزر عليه، فهزموه، وفعلوا الأفاعيل المنكرة التي لم يسمع بمثلها الناس، حيث عاثوا في الأرض فسادا، وقتلوا واسروا الكثير من العرب، وغنموا أموالهم، وسبوا ذراريهم، بينما اكتفى الوالي بالهزيمة لإنقاذ نفسه! مما أضطر الرشيد ليرسل رجلين من عنده، فأصلحا ما أفسده الوالي بهزيمته.
ومثلما فعلت حكومة العراق بوالي الموصل وقادة جندها؛ الذين هربوا، وسلموها إلى داعش المجرمة، تسوم أهلها سوء العذاب، حينما كرموهم وعينوهم في مناصب أخرى، كان هارون الرشيد قد أمر بتعيين سعيد، بعد هزيمته النكراء واليا على مدينة مهمة أخرى، تقع في مواجهة العدو، هي مرعش، ومرعش مدينة بالثغور بين الشام وبلاد الروم، أحدثها الرشيد، وفي وسطها حصن يسمى "المرواني" كان بناه مروان الحمار، ولها ربض يعرف بالهارونية. فأغارت الروم عليها، وأصابوا مال المسلمين، وانصرفوا، ولم يتحرك سعيد من موضعه وكان ذلك سنة إحدى وتسعين ومائة للهجرة.
فهل بعد هذا، ومع كل هذا التاريخ الطويل من ألاعيب السياسة العربية، التي تنظر إلى القائد والمسؤول على أنه الأهم في حلقة الحياة في المجتمع العربي، وتبحث له عن الفائدة والمنفعة، مهما أحدث من تخريب وسرق من المال، يحق لأحد أن يمتعض، ويغضب، ويعترض، ويتعجب؟
ولذا أرى أن القادة الكبار والسياسيين الأحرار هم أولى بالعجب والغضب والاعتراض والامتعاض من المواطن المسكين، لأن المواطن ناكر الجميل لا يعترف بقدراتهم وموسوعية علومهم وتنوع معارفهم وقوة شكيمتهم وطول أذرعهم في الفساد، وهي خبراتهم التي تتيح لهم تولي مناصبهم مهما كان تنوعها وتخصصها!
مقالات اخرى للكاتب