تقترن السلطة في تاريخنا العربي بالاستحواذ على الثروة الذي يفرز بالضرورة قلّة من اغنياء وكثرة من فقراء،جسدتها بغداد زمن هارون الرشيد بتباين حاد بين هاتين الطبقتين،في حياة بذخ وترف سفيه ومجون لقلة تمتلك السلطة والثروة والقانون،وكثرة من معدمين وجياع وعاطلين طحنهم الفقر بسبب انشغال الزعماء والحكام بالملذات..بتعبير ابي حيان التوحيدي.
من هؤلاء الجياع والمهمشين،ظهرت جماعة اطلق عليهم (العيّارون)..والعيّار بحسب القاموس المحيط يعني (الكثير المجيء والذهاب والذكي الكثيرالتطواف) الذي يتردد بلا عمل.وقد شكّل العيارون مع الشطّار واللصوص جماعة معزولة..أدخلهم تهميشهم وعزلتهم في صراع مع مجتمع نبذهم،تطور تدريجيا من التمرّد عليه الى القيام بالثورة ضد السلطة وكبار الاثرياء..والحصول على حقوقهم الشرعية باساليب غير شرعية.
ومع ان المصادر التاريخية وصفتهم بانهم (غوغاء من السفلة والأوباش والحثالة العامية)فانهم وصفوا ايضا بأنهم كانوا اصحاب قضية سدت بوجوههم السبل المشروعة فلم يجدوا الا اللصوصية والعيارة وقطع الطريق سبيلا للتعبير عن انفسهم وقضيتهم..وكانوا في واحد من اساليبهم مثل روبن هود..يسرقون المال من الاغنياء ليوزعوه على الفقراء والمحتاجين..ولهذا وصفوا بانهم (سلطة العدل خارج القانون).
ومع ان العياريّن يذكروننا بالصعاليك زمن الجاهلية من حيث التشابه السيكولوجي والاجتماعي الا انهم كانوا اكثر شأنا وأشد فعلا لاسيما زمن الفتنة بين الأخوين الأمين والمأمون حيث شكلّوا ظاهرة سياسية ووطنية ايضا!.فحين حاصرت جيوش المامون بــــــغداد
(196هجرية)،ورمتها بالمجانيق..وقتلوا وهدموا واحرقوا..حصل ان معظم قواد الأمين هربوا ولم يصمد في هذه المعركة الا عامة بغداد (والأوباش والرعاع..اي العيارون) بحسب الطبري..وهم (العيّارون)الذين جعلوا قائد جيوش المأمون (طاهر بن الحسين) يعجز عن دخول بغداد في واحدة من اشرس المعارك بين العرب والعجم،بل استماتوا في الدفاع عن بغداد وظلوا صامدين حتى بعد ان استسلم قائد جيش الامين وصاحب شرطته..ما يعني انهم كانوا اكثر حبا لبغداد من سادتها..وان فقرائها كانوا اكثر تعلّقا بها من اغنيائها..ربما لأن الفقراء اذا احبوا احبوا عن صدق،والأغنياء اذا احبوا..احبوا عن مصلحة!.
والمفارقة ان جند الأمين وجند المأمون شرع كل منهما في تدمير وحرق الجانب الذي اعتصم به خصمه،وكانت النتيجة تدمير بغداد وحرقها..وهي الوقعة التي رثى فيها الشعراء بغداد لأول مرة رثاءا مرّا يفيض حسرة على مصيرها..وأن العيّاريين انفسهم رثوها كما ينقل الدكتور محمد رجب النجار عن الطبري،فيما لم يرثها من حكامها وأغنيائها أحد!
ثمة حقيقة تخص الطبيعة البشرية هي ان الوصول الى السلطة يؤدي الى الاستحواذ على الثروة حتى لو كانت ديمقراطية،وتفرز قلة تعيش برفاهية وكثرة تعيسة بائسة.والمفارقة المخجلة ان العيّارين ايام زمان كانوا قوة تخشاها السلطة والاثرياء الفاسدين فيما (عياّريي) زمن الديمقراطية لا يملكون سوى التظاهرات والترديد..(نواب الشعب كلهم حراميه)!.
والمفارقة الأوجع،اننا حين نقارن حال الامس الغابر من اللصوص بحال اليوم الحاضر من لصوص سياسيين ووزراء ومسؤولين كبار،نجد ان العيّارين كانوا يتحلون بقيم لا يتحلى بها عدد من الذين تولوا المسؤولية ويدّعون التقوى.فلقد كان لهؤلاء العيّارين زعيم اسمه (عثمان الخياط ) يضع لهم الاسس والمباديء والاخلاق التي ينبغي ان يتصف بها اللصوص،منها مقولته:(ما سرقت جارا وان كان عدوا،ولا كريما،ولا كافأت غادرا بغدره).واوصى اصحابه قائلا:(اضمنوا لي ثلاثا اضمن لكم السلامة..لا تسرقوا الجيران واتقوا الحرم ولا تكونوا اكثر من شريك مناصف وان كنتم اولى بما في ايديهم لكذبهم وغشهم وتركهم اخراج الزكاة وجحودهم الودائع).
لاحظوا ما قاله..انه لم يعد يخون او يكذب منذ ان صار من اللصوص الفتيان..ذلك انهم كانوا يسرقون كبار الاثرياء والبخلاء ومن لم يخرج زكاة او يغش او يكذب في معاملات الناس..وانها في رأيهم استرداد لمال الله الذي ينبغي ان يستعيدوه منهم عنوة واغتصابا..وتحقيق العدل خارج القانون.
قارنوا بالله عليكم بين قيم هؤلاء اللصوص وبين قيم لصوص وصفتهم المرجعية الموقرة بأنهم (حيتان).فالعيارون كانوا يسرقون الاثرياء،فيما ساسة هذا الزمان يسرقون قوت الناس الذي ائتمنوا عليه.واولئك كانوا يخرجون الزكاة من المال الذي يسرقونه رغم قلته،وهؤلاء لا يزكوه ولا يخمّسوه بمن فيهم معممون واصحاب لحى.واولئك كانوا يوزعون المال المسروق على المحتاجين من ابناء شعبهم،وهؤلاء يسرقون مال شعبهم ويودعونه في الخارج.واولئك كانوا يستحون ويخجلون ان سرق احدهم فقيرا،فيما هولاء مسحوا آخر نقطة حياء من على جبينهم..وحولوا الفساد الى شطارة!.واولئك ما كان احد منهم يتستر على سارق،فيما رئيس حكومتهم السابق تستر عليهم،خوفا (ان ينقلب عاليها سافلها!)..وصمت رئيسها الحالي عن تنفيذ وعده بكشف الحيتان!..فهل هناك من يشك ان عياريّ ايام زمان..اشرف من ساسة هذا الزمان؟!.
مقالات اخرى للكاتب