أينما ذهبتَ في أرجاء (الوطن العربي) السعيد، ترى الناس كلها تشكو سوء الحال وانعدام الحرية والعدالة والديمقراطية وسيادة القانون المدني في مجتمعاتهم، وكلها تشكو الفساد الذي يزكم الأنوف واستبداد الطبقة السياسية الحاكمة وعبثها بمقدرات الدولة دون اهتمام لمصالح شعوبها. ولكن ما أن يأتي الحديث عن العراق، حتى ترى جموع العربان كلهم قفزوا عليك كالغربان يترحمون على (شهيد الحج الأكبر) صدام حسين، واصفينه بأنه (أفضل) من حكم العراق و(انظروا) لحال العراق من بعده كيف أصبح وبأن الإرهاب الذي يفتك بنا اليوم هو (عقاب) نستحقه على (خيانتنا) للبطل صدام وإعدامنا إياه في يوم العيد، وبأننا (بعنا) وطننا للمحتل الأمريكي الصهيوني الصفوي الفارسي المجوسي، الخ، الخ، الخ، إلى آخر الاسطوانة المشروخة التي حفظها و (درخها) العراقيون بسنتهم وشيعتهم.
وعندما تقول لهم بأننا نحن العراقيون، لسنا حشرات للسحق أو الإبادة، بل نحن أيضاً بشر مثلكم ننشد الحرية والعدالة والديمقراطية والحياة الكريمة والمجتمع المدني المتحضر وبأن صدام هو أسوأ بكثير من القذافي أو الأسد وقد فعل بنا أضعاف ما فعله غيره، يأتيك الرد جاهزاً معلباً، بصوت جهوري واحد، وكأنه آية منزلة في القرآن لا تقبل النقاش أو التأويل: (أنتم العراقيون بالذات، شعب نزق صعب المراس، لا يحكمكم إلا الحجاج أو صدام حسين)، وهنا كالعادة يصل النقاش مع (أشقائنا) العرب إلى طريق مسدود، فلا يجوز التأويل في غير موضعه، ولا اجتهاد في النص! والقاعدة الذهبية التي على المرء إتباعها هنا هي: (اكسب الجدل بتجنبه).
عشر سنوات بتمامها مرت على سقوط الطاغية المقبور، عانى خلالها العراقيون الكثير وتعلموا فيها الكثير أيضاً. ولا أغالي بالقول بأن العراق قد أصبح اليوم صاحب أكثر تجربة سياسية متقدمة في الوطن العربي خلال هذه الفترة الوجيزة من عمر الشعوب. بالنسبة إلى نفوس العراق، لدينا أكبر عدد من الصحف الورقية والإلكترونية والقنوات الفضائية والأرضية، ونحظى بأعلى نسبة استخدام للإنترنت و(الفيسبوك) في الوطن العربي، مما يعني أننا لا نزال شعباً حياً لم يمت. ولكن لا تزال التركة الثقيلة لنظام العبث البائد ترهق ظهورنا وتلوح أمامنا كالشبح الذي يمنعنا من التقدم. الطائفية، الكراهية، الإرهاب، الفساد، عدم الإحساس بالمسؤولية، ضعف الدولة، عدم احترام القانون، والأهم من ذلك كله، عدم احترام العمل والوقت وانعدام التصرف المهني المسؤول إلا تحت عصا الخوف ونار التهديد والوعيد بالعقاب الشديد.
لقد كان المقبور صدام يعطي الموظف راتباً قدره 5 دولارات في الشهر بينما نفطه مسخر لرفاهية النظام وأزلامه وقصور (الشهيد) صدام وحفلات (الشهيد) عدي وغيرها، والباقي يوزع على (الأشقاء) العرب في كل مكان، والعراقي يأكل خبز الشعير ومحروم من أبسط مقومات الحياة الكريمة، وصدام (يكرب) عليه دوام كامل ويأخذه بعد الدوام مسيرات وجيش شعبي واجتماعات فرقة حزبية وخفارات ليلية وما غير ذلك، والناس كلها تهتف له بالروح والدم نفديك يا صدام، ولا تجد في العراق من طوله لعرضه (زلمة) أو (ابن مرة) يجرؤ على التفوه بكلمة زايدة أو ناقصة، بل الكل يتسابق في المديح والتملق لأزلام الحزب والنظام آنذاك.
أما اليوم فالعكس تماماً، المالكي يعطي نفس الموظف 1200 دولار في الشهر ودوام (تسخيت) 3 ساعات في اليوم و(400) يوم في السنة عطل وإجازات ومناسبات دينية ووطنية وغيرها، وبنهاية كل عام تتدفق على هذا الموظف الزيادات والإيفادات والبعثات إلى الخارج وتوزيع (أرباح) النفط وغيره، ومع ذلك، أينما ذهبتَ إلى أية دائرة عراقية اليوم، ترى المراجعين تلهبهم ألسنة الشمس الحارقة في الخارج، والموظفون في الداخل تحت (بخيخ السبالت) يمضون الوقت بتناول الكرزات (الحَبّ) وتدخين (الجكَاير) مع الشاي المهيّل أو (الحامض) و(الدردمة) على الحكومة الفاشلة وابتزاز الناس بالرشاوي و(الإكراميات) الإجبارية وشتم المالكي بالصوت العالي وسبه ولعنه ووصفه بأنه حرامي ودكتاتور، زائداً طبعاً المطالبة المستمرة بزيادة الرواتب وتخفيف الدوام، وانتهاءً بالموضة الجديدة التي نشهدها في هذا العام 2013، ألا وهي موضة (الإضرابات)!
ولم لا؟ فما دام المالكي (ما يخوّف) ويستجدي رضاهم ويغدقهم بالرواتب الدسمة دون عمل نافع يقومون به سوى ابتزاز المواطنين وتعقيد أمورهم وطلب الرشاوي وقضاء المصالح الشخصية في وقت الدوام (القصير) أصلاً، وما دامت عصا القمع والخوف قد انكسرت والناس (طلعت عينها) كما نقول، فلا مانع إذا من المطالبة بالمزيد، وعند رفض المطالبات الجديدة، فالحل هو الإضراب عن الدوام والخروج في مسيرات (ترفيهية) أثناء وقت الدوام للمطالبة (بالحقوق المشروعة)، هذا طبعاً ومصالح الناس متعطلة والامتحانات الدراسية متوقفة والموظفون والمدرسون رواتبهم تجري وتحتسب لهم دون انقطاع، مع التهديد بالاستمرار في (الإضراب) في حال عدم تلبية مطالبهم، وبهذا نكون مع الأسف قد سمحنا لعربان صدام بالشماتة بنا بقولهم أنكم: (شعب نزق صعب المراس، لا يحكمكم إلا الحجاج أو صدام حسين)!
وعندما يأتي الحديث عن المالكي، ترى العراقيين قد أصبحوا (زلم خشنة)، لا تخاف في الحق لومة لائم واللسان ما شاء الله (يكنس ويرش). بينما في المقابل لا تجد (زلمة) في البصرة أو بغداد أو النجف أو كربلاء من يجرؤ علناً على انتقاد سياسات التيار الصدري أو المجلس الأعلى أو من لف لفها من العمائم السوداء المصنوعة في طهران. والسبب معروف طبعاً، فأولئك لديهم من المليشيات و(البطوط) و(الصكاكة) و(العلاّسة) والمحاكم السرية الكفيلة بردع كل من (يطوّل) لسانه و(يتطاول) على (حرمة) أهل البيت (ع)، فمصيره القتل أو الاختطاف كما يعلم الجميع. أما صاحبنا أبو إسراء فهو شخص (ما يخوّف) وكما يقول المثل الشعبي العراقي الطريف: (مكَام الما يشوّر سميه ابوالخلاكَين)!
وقد أسهب عالم الاجتماع الكبير، المرحوم الدكتور علي الوردي، في وصف طبيعة الفرد العراقي والشخصية العراقية، فهو يحترم من يخاف شره ويتطاول على من لا يخاف شره. ومؤلفاته كثيرة وزاخرة في هذا المضمار ولا يتسع المجال للحديث عنها هنا.
وقد حصل معي شخصياً في مراجعة لإحدى المنشآت النفطية الهامة في البصرة وكانت الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً (يعني عز الدوام)، والتي يفترض أن تمثل هذه المؤسسة عصباً رئيسياً في دعم الاقتصاد العراقي ورفده نحو (إعادة إعمار) العراق. وعندما وصلنا إلى القسم المعني للاستفسار عن معاملتنا بعد انتظار لعدة شهور دون رد، وجدنا ذلك القسم يمتلئ كغيره بعدد كبير من الموظفات الكسولات اللواتي هن خير تمثيل لظاهرة البطالة المقنعة في العراق الجديد. فوجئنا بغلق الباب بوجهنا بحجة أداء فريضة صلاة الظهر (وطبعاً ما يعقبها من أدعية واجبة ومستحبة)، ومن الذي يجرؤ طبعاً على طرق الباب على الموظفات و(التحرش) بهن و(قطع) صلاتهن لرب العالمين؟ وبعد انتظار دام حوالي 45 دقيقة فتحنَ لنا الباب قائلات أن الدوام الرسمي قد انتهى والموظفة المعنية قد (غادرت) وعليكم بالقدوم غداً! علماً بأن أقل راتب تتقاضاه الواحدة منهن هو 1000 دولار شهرياً، وهذا غير (الإكراميات) و(الهدايا) الاختيارية والإجبارية وغيرها لتسريع تمشية معاملات بعض الناس على حساب أناس آخرين! لماذا الأمر هكذا؟ وهل نحن بحاجة لصدام جديد لكي يقوم أولئك الموظفون الحكوميون بأداء واجباتهم المطلوبة منهم؟
وهذا مجرد مثال بسيط من ملايين الأمثلة التي يعيشها العراقيون يومياً في دوائر الدولة التي سمتها الرئيسية في العراق (الجديد) هي التسيب والفساد وانعدام الإدارة وعدم محاسبة الموظف ومنع إقالة الموظف من عمله وتملق المدير لموظفيه لكي لا (يعتصموا) عليه لدى الوزارة مطالبين بعزله أو نقله، والنتيجة هي من أن عنده واسطة أو (عرف) ومستعد لأن (يدفع) قد تمشي أموره في النهاية، أما من ليس عنده واسطة أو لا خيل عنده يهديها ولا مال، فليشرب من (ماي الشط) و (طبّه ألف طوب) وموتوا بغيظكم أيها الحاقدون!
أي نعم، إن حق التظاهر والاعتصام حق مشروع يضمنه القانون في البلدان الديمقراطية الحرة، ومن حق الجماهير أن تشتكي المظلومية وتطالب بحقوقها المشروعة، ولكن على أن يكون ذلك إما خارج وقت الدوام أو إضراباً أثناء الدوام ولكن بنصف الأجر الشهري المعتاد كما هو معمول به في الغرب، لكي تكون الإضرابات حقيقية صادقة وتعكس رغبة المضربين بالتعبير عن مظلوميتهم ومشروعية مطالبهم، لا أن تكون وسيلة للتهرب من أداء الواجب الوظيفي وقبض الرواتب العالية من قوت الشعب مجاناً وبدون عمل أو أداء في المقابل كما نرى في (المودة) الجديدة في الجامعات والمنشآت النفطية والصناعية العراقية في هذه الأيام.
لقد فهم المقبور صدام نفسية الشعب العراقي جيداً واستطاع بذلك، زائداً ما يملكه من نذالة وقسوة مفرطة وعقلية إجرامية خبيثة أن يخطف قطار السلطة ويحكم العراقيين بالحديد والنار 30 عاماً ولولا أن أتى بوش وحررنا من نظامه الاستبدادي الوحشي، لبقينا حتى هذه الساعة مثلنا مثل شعب كوريا الشمالية اليوم، شعباً جائعاً مستعبداً مقموعاً ومحروماً من السفر والموبايل والانترنت والفيسبوك والبيبسي والموز والكل يخرج في مسيرات إجبارية يهتف بأعلى صوته: (بالروح بالدم نفديك يا كيم جونغ أون)! ومن لم يبكِ (بصدق) أو يظهر الحزن الكافي في جنازة والده كيم جونغ ايل، فعقابه السجن ستة أشهر أو سنة في معسكرات العمل الإجباري وأقبية التعذيب التي تملأ هذه الدولة وشعبها المنكوب بتلك الدكتاتورية الستالينية الحديدية منذ أكثر من 60 عاماً!
تعود الآن للسؤال الجوهري موضوع هذه المقالة، هل نحن بالفعل شعب لا يحكمه إلا الحجاج أو صدام حسين؟ الجواب بنظري كلا. بل نحن بالمقابل شعب أفسدته الدكتاتورية وجعلتنا نصدق هذه الكذبة القديمة. ليس من مجال اليوم لعودة الدكتاتورية من جديد، سواء بثوبها القومجي القديم أو بثوبها الإسلامجي الجديد، وذلك لأن آلة صنع الدكتاتوريات (ألا وهي الجيش الاستعبادي القديم) قد تهشّمت في العراق الجديد ولا مجال اليوم لإعادة بنائها مجدداً. ولا بديل أمام العراقيين، شاءوا أم أبوا، سوى الاستمرار في مسيرة البناء الديمقراطي والتطهر التدريجي من أدران التركة القديمة شيئاً فشيئاً.
وما هذه التصرفات غير المسؤولة لبعض العراقيين اليوم من إضرابات و(ضرب الدوام) واعتصامات وتبادل الشتائم الطائفية واستهتار بالقانون والواجب الوظيفي وابتزاز المواطنين بالخاوات والرشاوي وغيره سوى ردة فعل مؤقتة لجسد مريض أدمن تعاطي الكحول والعقاقير الاستعبادية المخدرة وانقطعت عنه فجأة، وسيشفى منها تدريجياً على مدى السنوات القادمة، وسيصبح العراق منارة للحرية والديمقراطية وسيادة القانون والحياة المدنية الحديثة المتطورة، ولكن في الوقت ذاته، العملية مؤلمة والثمن باهظ جداً، ولا خيار أمامنا اليوم مع الأسف، سوى الاستمرار بدفعه من دمائنا وأعمارنا وأموالنا، فالبحر وراءنا والعدو أمامنا، والعربة أصبحت الآن أمام الحصان، ونسأل الله أن يبدل حالنا إلى أحسن الحال.
مقالات اخرى للكاتب