من المعروف أنّ الجَدّةّ هي أمّ الأب أو أمّ الأم وما علتْ، وكثيراً مايقال (كانت جدّتُه أحنّ عليه من أبيه)، وهناك من يسمّيها في لهجات العراق بأسماء مثل (بيبيتي) و (حبّوبتي)، وقد أدركت في ستينيات القرن الماضي (جَدّتي غوية العلي) فهي أمُّ أبي، كانت امرأةً ذات وقار وطول فاره معروفة بعفتها وكرمها وأصلها الطيب فهي حفيدة الشيخ علي الخلف شيخ عام الجبور في بغداد ، كما هو مثبت في الوثيقة العثمانية الصادرة عام 1742 هج والتي تم تجديدها عام 1923 ميلادية التي أحتفط بنسختها الأصلية بحوزتي لغاية اليوم، كانت تحفظ أجزاء كثيرة من القرآن الكريم والكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، وتحفظ العديد من الأشعار الجميلة والقصائد التي تمجد أبناء وفرسان قبيلتنا الجبور، وكم كانت تفخر وتبكي عندما تحدثنا عن أجدادنا وعن كرمهم ومضايفهم التي أدركنا بقاياها في ستينيات القرن الماضي، قبل أن يكلكل البعث على العراق بليله الطويل البهيم، كم كانت جميلة تلك اللحظات التي لن تتكرر أبداً والتي يعيشها الإنسان حينما يدرك إحدى (جدّتيه) مع إخوانه وأخواته، والجميع يلتفّون حولها وهم في عنفوان طفولتهم، بجلسة قصصية حميمة تكون في الكثير من الأحيان متنوعة وجميلة وجمّة الفوائد التربوية والتغذية العقلية، وكم من المرّات حدثتنا جدتنا عن (السعلوّة) وعن (الفارس الغريب) وعن (عنتر وعبلة) و(ليلى والذئب) وعن النبيّ المصطفى الأمين وطفولته وحياته الشريفة وعن الأنبياء والأئمة الأطهار وعن أبي زيد الهلالي وعن فرسان قبيلة الجبور ومنهم ابن عمها الشهيد البطل (سلوم علي الخلف الجبوري) الذي اشترك في ثورة العشرين ولم يعُد إلى دياره عقب ذلك، وكم كانت تذرف الدموع ونحن معها عندما تذكره بكل فخر وتقول لنا أولادي (عمّكم شهيد) وشخصيّاً كنتُ قد أدركت القارئات أي (الكوالات أو الملّيات) وهنّ يردّدن نائحاتٍ عن عمّي (أويلاه عل مارجع لدياره).
كانت تلك القصص والحكايات التي ترويها لنا جدّتي تصلح أن تكون مواضيعَ لأفلام جميلة ومسلسلات تاريخية مؤثّرة، لو أتيحت كتابتها بطريقة السيناريو ويتم إخراجها من قبل مخرجين محترفين متميزين، لكن أين ذلك من الإعلام المنظَّم والمدفوع الثمن من أجل نسف المجتمع العربي والإسلامي من داخله بترّهات البرامج والأكشن والميوعة والدعارة والضياع؟ كانت جدتي تسدي إلينا النصائح والإرشادات التربويّة التي هي في الحصيلة قد انعكست على حياتنا إيجابيّاً إلى حدِّ اللحظة الراهنة، والتي يفتقدها معظم أطفال هذا الزمن الذي تم فيه استبدال (الجدّة) بالمربية الهندية أو الكورية أو المعلمة في رياض الأطفال، متناسين أنّ الأم والجدّة هما المنبع الصافي والمصدر الأحرص في تنشئة أطفالنا الأعزاء، حتى وصل الأمر ببعض الآباء والأمهات إلى حجر أمهاتهم وحجبهنّ عن المشاركة في تدبير شؤون الأسرة الأخلاقيّة، بسبب عدم رغبة الزوجة العيش مع أم الزوج في بيتٍ واحد.
تنبأتْ جدّتي بنبؤات أكّدت تحقّقها على أرض الواقع، حيث حدّثتنا مرّةً، أنّها سمعت من والدها أو أمّها، إحدى الحكايات التي ظلت عالقةً في ذهني، وهي حكاية (بلاء بوش) إذ تقول جدتي في حكايتها أن بلاءً سيحلّ على بغداد يسمونه بلاء بوش وفعلاً ورغم مايقال عن إطاحة المجرم صدام من خلال بلاء بوش، إلا أنّ هذا البلاء أهون من بقاء البعث جاثماً على صدر العراق، والحكاية الثانية التي ظلت عالقة في ذهني أنّ جدتي كانت تقول لنا أن بغداد (إمّا غريج أو حريج) أي إمّا أن تغرق وإمّا أن تحترق، فأما عن حريقها فنحن شاهدناها وهي تحترق 35 عاماً طيلة حكم البعثيين الجبناء، وأما الغرق فإن المياه على أعتاب بغداد من خلال فتح قنوات سدّة الفلوجة من قبل الإرهابيين الدواعش، فهل ستغرق بغداد حتما كما تنبّأت جدتي؟
وتضيف جدتي إلى تنبّؤاتِها حيث أنبأنتا أنّ بغداد ستنتَهب وتُسرق البيوتُ فها، ويُقتل شبابُها وتسبى نساؤها ويحكمها الجهلاء والغلمان، عند ذلك ابشروا بنهاية بغداد وربما الدنيا، بينما نحن الأطفال في تلك الحالة نصغي لكل كلمة وبخوف وهلع ممّا سيجري علينا في بغداد، ونكثر من أسئلتنا لجدتي، هل سنكون نحن من يشاهد هذه الفواجع في بغداد؟ وتردّ علينا بكل هدوء، ربّما وربّما لن تحدث، وكلُّ ذلك يرجع إلى أمر الله جلَّ جلالُه، وعندما ترى جدتي الخوف قد بدا على وجوهنا من خلال رهبة صمتنا ورنوِّ استماعنا اليها بكل هدوء، تعود كي تطمئننا وتقول لنا: أولادي إذا صليتهم وصمتم وأدّيتم الأمانات فسوف يُذهب اللهُ عنكم هذا العذاب، ويحيله إلى أقوامٍ غيركم عاصين لله، فتعيد إلينا فرحَنا كما تعيد الابتسامةَ إلى محيانا، وهكذا كنا يوميا نستمع إلى تلك القصص الجميلة التي ستبقى عالقةً في ذاكرتنا حتّى نلقى جدّتي رحمها الله، كي تقص علينا أحسنَ القصص التي أوحتها لها جنانُ الخلد.
مقالات اخرى للكاتب