كتبت قبل فترة أن التملق أو ما نسميها "اللواكة" ماركة عراقية مسجلة بات ينافسنا فيها المصريون وغيرهم فانزعج بعضهم ولعله قال انني أمعن في جلد الذات في ما أكتب عن أبناء بلدي المساكين، وان العراقيين مكاريد ومجبورون على الاتصاف ببعض الخصائص بسبب كثرة الويلات التي مرت بهم. لعلهم قالوا ذلك ولهم الحقُّ، ومع هذا، لديّ، أنا الآخر، بعض الحق، فالكشف عن بواطن الثقافة الاجتماعية مفيد للخلاص من بعض الظواهر ومن أبرزها التملق للحكام الذي هو نتاج لمرتكزات ونظم نسير عليها دون أن نعي.
أول ما يتوجب ملاحظته هو أن التملق قد يكون ردة فعل سيكولوجية لخوف عميق يسكن دواخلنا، خوفٌ من سلطة تضطهدنا، وليس المقصود هنا سلطة الحاكم فقط بل سلطة الاقتصاد وضغوط الحاضر المزري، حاضرنا الذي هو امتداد لماضي أجدادنا الذي لا يزال يضغط على ذاكرتنا الاجتماعية الثقيلة ويورثنا الظاهرة ذاتها. المتملق، بالأحرى، يجهد لإرضاء من بيديه مفاتيح الحياة والرزق كي لا يسدّها في وجهه ويميته من الجوع. أمّا الممسك بهذه المفاتيح فهو الإقطاعي والملّاك والرأسمالي، هو مديرك في العمل وقائدك في الجيش، موظف البلدية الذي يطارد بسطيتك وصاحب المطعم الذي يمكن أن يطردك لأدنى سبب. هذا الخوف المقيم في النفس هو الذي يحرّك المجسات باتجاه إرضاء صاحب السلطة تلك ولو بسفح الكرامة. لهذا فإن من السهل ملاحظة أن معدل التملق ينخفض طرديا كلما صار المرء مستقلا عن إرادة الآخرين، مستغنيا عن الحاجة لهم ماديا، ما يعني أن الظاهرة تنتعش في الوسط الفقير وتغدو شبه طبيعية بين المساكين "الماشين بسد الحايط"، أولئك الذين يسألون الله رضى أصحاب السلطة عنهم ويقولون كل حين: اللهم أرض عنا ولاتك ما طلعت الشمس وصاح الديك.
للماركسيين رأي مهم بهذا الشأن، فالسلطة السياسية عندهم لا تقوم إلا على أسس اقتصادية، لذا تجد دائما أن ثمة تحالفا لا تنقطع عروته يجمع الأغنياء بالحكام، ومعهم نمط من رجال الدين ممن أسماهم علي الوردي بـ"وعّاظ السلاطين"، الذين يشرعنون سلطة الحاكم، من جهة، ويباركون الأغنياء، من جهة أخرى. درجات التملق ربما تقل عند هذه السلطات الثلاث بينما تتركز لدى المحكومين، فالأخيرون مهجوسون بإرضاء الحاكم وصاحب العمل كي تسير حياتهم دون مشاكل.
غير أن هذا ليس كل ما في ثقافة التملق السائدة في مجتمعنا، فإلى جانب الخوف من مجهول السلطة والدهر، هناك دافع آخر يتوفر لدى فئة مختلفة يتميز أفرادها بالطموح، دافع يضغط على صاحبه كي يغادر الطبقة التي وجد نفسه فيها ويرتقي باتجاه علية القوم. الثقافة الاجتماعية تميّز هؤلاء جيدا وتسميهم "الوصوليين" بمعنى أنهم يتخذون التملق وسيلة للوصول إلى هدف ما.
تحدّثني أم العيال عن زميلٍ لها في أيام الكلية من هذا النوع. كان شابا سريع الحركات لا يهدأ للحظة. لكن كل نشاطه كان يتركز في التقرب من الأساتذة وليس التفوق. إذا رأى أستاذا من بعيد هرع له و"تراصف" معه متحدثا بأي شأن، وإذا شاهد مجموعة من المتنفذين اندس بينهم محييا وعارضا نفسه بطريقة مبتذلة. الطريف أن زميلا آخر لها من البصرة كان انتبه لذلك الشاب فورا، وبعد أيام صار كلما صادفه في مكان ربّت على كتفه وقال له ـ سوف تصل ..سوف تصل!
عدا مفردة "الوصولي"، هناك كنايات كثيرة تطلق على "اللوكي" وفعالية التملق، فهم يقولون مثلا: فلان يقرقز لفلان، أي أن أحدا صار كأنه قرقوز لآخر. وهم يقولون أيضا: ذبه عل اللو، و"اللو" هي "اللواكة" طبعا، والاستعارة مأخوذة من التنمير في "كير" السيارة الذي نعبر عنه بمفردة "ذبه عل الأول" أو الثاني أو الثالث. لكأن الناس تخيلوا فعالية التملق التي قد يركن له المرء شبيهة بنمرة من نمر "الكير"، أي منظم السرعة في محرك السيارة، تخرج صاحبها عن المعتاد فيكون "قروقوزا"، وهي من أدق الاستعارات وأبلغها.
لا أخفيكم، فالحديث عن هذه الثقافة طويل وممتع
ويحتمل الكثير من التأويلات، ولعلي عائدٌ لبعضها لاحقا فانتظروني.
مقالات اخرى للكاتب